أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: لقد أنقذنا الله على يد الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى من ظلمات الجهل، وروعات الخوف؛ ذلك أنه سعى في تحصيل الأسباب الدنيوية المشروعة في مكافحة الفقر، والمرض، وتنمية القدرات البشرية، وتوحيدها.. تحسبه عامياً كأبناء جيله؛ فتكشف لك سيرته ورسائله عن وعي عميق لجي بمتغيرات العالم، ونور فراسة صادقة عن أحواله المرتقبة.. وتحسبه مجرد طالب مجد، واستعادة تاريخ سليب لأهل بيته وأسرته؛ فتكشف لك سيرته وتطلعاته ورسائله عن آفاق أوسع وأبعد مدًى من مجرد زعامة تدين لها العربان؛ ذلك أن منطلقه من زعامة دانت لها العرب قرابة ثلاثة قرون؛ ومن المتعذر أن تدين لغيره إلا بفرقة وانقسام؛ فجعل هذا الحق التاريخي الجزئي منطلقاً لأبعاد يحملها قلب زعيم مصلح على فطرة سليمة؛ لأنه لم يقنع بغير اجتماع على عقيدة وشريعة يستوي في ظلها والاحتماء والانتفاع بها الأبيض والأسود، ولا يقنع بغير كيان من سعة الأرض، وكثرة القوى البشرية يتم بهما مفهوم الدولة.. وأي جزء من رقعة هذه المملكة يسترضى به عبدالعزيز ممكن أن يرضي زعيماً كان شريداً مسلوباً؛ فحصل له جزء من الأرض والأعوان والسيادة فيهم؛ ولكن سيرته، ومواقفه مع مندوبي القوى الدول الأجنبية، وهكذا رسائله؛ ولا سيما المتبادلة مع الريحاني: كشفت عن زعيم مصلح خبر الحياة حلوها ومرها؛ وهو على علم مكين بدين ربه في تواضع، مؤمن غير موارب في إيمانه؛ ومعنى عدم المواربة أن بعض فترات الضعف التاريخي تجبره على الرضى بما هو دون طموحه، وإخفاء ما يريده من انطلاق أبعد؛ وهو في حال القوة والضعف معاً لا يساوم على إيمانه، ولا يخفي أن هدفه جمع الرقعة صغرت أو كبرت، وجمع أهلها قلوا أو كثروا.. جمع كل أولئك على عقيدة الإسلام وشريعته دون فصل بين الدين والدولة، أو الدين والحياة العامة.. لم يساوم ألبتة، ولم يقبل المزايدة بأي نظام حكومي سياسي؛ ومعنى سياسي أن يكون مرضياً لدعاية المعسكرين المنتصرين في الحربين الكونيتين عندما شجعا حكومات الاستقلال الصوري على أنظمة حكومات علمانية بدعايات مختلفة تسقط حق فاطر الأرض والسموات، وتدعو إلى ما يدمر الخلق من إرواء حريات الشهوات والشبهات، وتمنع من وصل التاريخ حسب القدرة بحكومة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ثم الملك المتوارث من معاوية.. إلى عبدالملك.. إلى هارون الرشيد.. إلى صلاح الدين رضي الله عنهم جميعاً.. وما جعل الله الملك عيباً شعياً إلا أن يكون ملكاً عضوضاً؛ بل كان داوود وسليمان عليهما السلام نبيين ملكين كريمين، وقد امتن الله على بني إسرائيل بأن جعل فيهم ملوكاً.. وكان مفهوم الحكومة الإسلامية الحقيقي (في كمال الخلافة الراشدة، وبعض نقص في الحكومة الملكية الإسلامية): أنه يعني أن علن المسلمين معصوم من ظهور المنكر استباحةً، أو تنظيماً، أو حماية.. وأن الفتوى الشرعية عامرة، والقضاء الشرعي لازم، وأن الحسبة الشرعية منصورة مدعومة، وأن حلقات المساجد والمدارس والرباطات راغدة: بالأوقاف، وبذل الأغنياء، ودعم الدولة، ورعاية الأكابر.
قال أبو عبدالرحمن: ذلك أن إيمان الملك عبدالعزيز منصب على الإيمان بعصبية الدين التي هي اتباع لما يأمر به دين الله سبحانه وتعالى، وليس عصبيةً جاهليةً بالعشيرة؛ لأنه صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم بشرع زائد على ما في القرآن؛ لأن الله أمرهم بالنص القرآني القطعي دلالة وثبوتاً أن يأخذوا ما أتى به الرسول؛ لأنها مضت السيرة العملية بإيجاب شرعه الزائد على القرآن؛ وهو من عند الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ، ولأن الوحي وحيان: متلو وهو القرآن، وغير متلو وهو السنة المطهرة؛ فلما صح لهم كل ذلك، وصح لهم أن الكذب والخطأ موجودان فيما نسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: لزمهم تحري الصحيح الثابت؛ وهم ضامنون إذا صدق الاجتهاد، وكان نزيهاً في تحري الحق: أن يحصلوا دين ربهم؛ لأن السنة من الذكر، وما يتوقف عليه فهم الذكر؛ فهو من الذكر؛ والله ضامن حفظ الذكر، وأنه لن يضيع، وأنه لن يلتبس بغيره التباساً لا يحصل معه التمييز.. والقرآن الكريم جاءهم ببلاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنته؛ فلما سلطوا طرق التوثيق التاريخي التي جعلها الله بأمره الشرعي، وقدره الكوني: سبيلاً محدداً للسلف في تمييز الخطإ من الصواب، والكذب من الصدق:أنعم الله عليهم بأن للمصيب أجرين على اجتهاده وإصابته، وأن للمخطئ أجرين على اجتهاده، وعفو عنه إذ أخطأ ولم يصب المراد.
قال أبو عبدالرحمن: ولا أعلم بعد حكومة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين، وانتفاضة صلاح الدين الأيوبي: دولةً قامت على العصبية للدين مثل دولة آل سعود.. ولا يغلط علي غالط فيحسب أنني ألغي دينية الدول الإسلامية التي تعاقبت على شرقنا العربي والإسلامي.. كلا؛ وإنما أقول: تلك الدول: إما ذات عصبيات قبلية، ودعاوى حقوق تاريخية للزعامة المجردة، وإما ذات عصبيات جنسية أممية هاضت على الشرق ثم اعتنقت الإسلام، وإما ذات عصبية إقليمية أو عرقية استقلت عن الخلافة الإسلامية حال ضعفها؛ وكل هذه الدول حكمت بالإسلام؛ لأن المجتمعات مسلمة، ولم تهزم النفوس بعد بجبروت علم مادي؛ فتتقبل بيسر الأيديولوجيات ودعايات كيد الكافرين وتضليلهم؛ ولم تقم دولة آل سعود على جموع تأتي من الشرق أو الغرب باسم العصبية لمجد أسرة ما بدافع حمية قبلية، ولا باسم برنامج يملى من الخارج، ويراد تنفيذه في جزيرة العرب؛ وإنما انطلقت من قرية صغيرة جداً هي الدرعية، وليس لها دعاية ألبتة غير الاجتماع على دين رب واحد يعبد، وشرع واحد ينفذ، ويترتب عليه بمقتضى المصالح المرسلة: تجميع القوى والقدرات لعمارة الأرض وقد مزقها التفرق الإقليمي والقبلي. قال أبو عبدالرحمن: كنت أقرأ الفصل العشرين من الباب الثاني من مقدمة (ابن خلدون) بعنوان «من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة وبالعكس»؛ فقد جعل الله الملك خلافةً وكفالة للخلق بشرع الله، فقال: «من حصلت له العصبية الكفيلة بالقدرة، وأونست منه خلال الخير المناسبة لتنفيذ أحكام الله في خلقه: فقد تهيأ للخلافة في العباد، وكفالة الخلق».. [تاريخ ابن خلدون 1/152]؛ وذكر أخلاق السياسة لكل دولة عصبيتها الدين؛ وهذه الأخلاق التي ذكرها ابن خلدون لم تفقدها الحكومة في البيت السعودي على مدى التاريخ، وهي كما حددها ابن خلدون: «الكرم، والعفو عن الزلات، والاحتمال من غير القادر، والقرى للضيوف، وحمل الكل، وكسب المعدم، والصبر على المكاره، والوفاء بالعهد، وبذل الأموال في صون الأعراض، وتعظيم الشريعة، وإجلال العلماء الحاملين لها، والوقوف عند ما يحددونه لهم من فعل أو ترك، وحسن الظن بهم، واعتقاد [لعلها: واعتماد] أهل الدين، والتبرك بهم، ورغبة الدعاء منهم، والحياء من الأكابر والمشايخ، وتوقيرهم وإجلالهم، والانقياد إلى الحق مع الداعي إليه، وإنصاف المستضعفين من أنفسهم، والتبذل في أحوالهم، والتواضع للمسكين، واستماعكوى المستغيثين، والتدين بالشرائع والعبادات، والقيام عليها وعلى أسبابها، والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد»: [تاريخ ابن خلدون 1/152]. قال أبو عبدالرحمن: بعض رجال العلم الشرعي قد يكون لهم احترام وهالة لدى العامة وسواد الشعب في البلدان الأخرى من قبل الموافقين لهم في النحلة؛ وإنما العبرة بالأخلاق السياسية: أي أن يكونوا مقدرين من الدولة.. تقدير الدولة للعلماء في العصر الحاضر خصيصة في البيت السعودي لا عن حاجة طارئة أو مصانعة؛ ولكن عن إرث، ودينونة، وإعمال لوصايا معهودة.. وقبل الحماس الشبابي للإسلام كان هذا البيت ورعيته: في المعترك وحده.. كان على دين شرعي، ويراد منه أن يكون على دين وضعي كغيره، وكان أعداء الملة يستفزونه بحيل شتى؛ ففي عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمهما الله تعالى تأججت قلوب ذوي الكفر على عمران مناسك الحج، فطنطنت الدعاية المغرضة باسم حقوق الحيوان والرفق بالحيوان، والغرض إلغاء شريعة الله في إيجاب الفدية في منى، وفي الندب إليها في بعض الأحوال.. وكان الدكتور (صالح صبحي بن إبراهيم)؛ وهو طبيب مصري من أهل القاهرة تعلم الألسن في القصر العيني، ثم في باريس، وتوفي في عام 1355هجرياً/ 1936 ميلادياً، قد اقترح أن تحرق الأضاحي في منى نزولاً عند رغبة الإنجليز الذين كانوا يأملون أن يجدوا من خلال ذلك موطئ قدم لهم هناك؛ فإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين