م. خالد إبراهيم الحجي
إن المصداقية السياسية هي مطابقة أفعال الدولة لما تقول إنها ستفعله، وجدارتها باكتساب الثقة في النظام الدولي. ومن أهم مزايا المصداقية السياسية أنها لا تكلّف الدولة التي تتصف بها مبالغ رأسمالية نقدية، ولا تكبدها خسائر بشرية لتحقيق مصالحها الوطنية.. وحيثما توجد ثقة متبادلة بين الدول، توجد علاقة متنامية ومستدامة، لذلك يزيد رصيد مصداقية الدول مع بعضها البعض كلما ارتفع مستوى الوفاء بالالتزامات التي بينها؛ لأنه إذا كانت وعود والتزامات دولة ما ذات مصداقية، فإن حلفاءها وخصومها يعتقدون أنها دولة يمكنها الوفاء بهذه الوعود، وتنفيذ هذه الالتزامات، وإذا لم يتم اعتبارها دولة ذات مصداقية، فهناك بعض الشكوك الكبيرة حول ما إذا كان يمكن لها الوفاء بالضمانات أو التهديدات التي تطلقها، ومثال على ذلك: التحذير الذي وجهه أوباما، الرئيس الأمريكي الأسبق إلى بشار الأسد الرئيس السوري، واستخدم فيه عبارة «الخط الأحمر» لمنعه من استخدام الأسلحة الكيماوية على المواطنين، خلال الحرب الأهلية السورية. ولكن هذا التحذير بالخط الأحمر لم يسنده ويدعمه ويقويه أوباما بالعمل العسكري على أرض الواقع، ولم يمنع بشار من استخدام الأسلحة الكيماوية. وبات مثاراً للسخرية والفكاهة والتندر، ويرمز إلى التدليس والتضليل والاحتيال السياسي.. والمصداقية هي الصفة الأساسية التي تتصف بها السياسة السعودية، وترى وتؤمن أنها لا غنى عنها، وهي عنصر أساسي للحفاظ على علاقاتها السياسية المثمرة، وتمثِّل حجر الزاوية للثقة المتبادلة بينها وبين الدول الأخرى؛ لذلك استطاعت أن تبني تحالفات قيمة؛ لأن الحلفاء المحتملين يثقون بالإرادة السياسية للمملكة، ولن يخشوا نكث الاتفاقيات أو نقض المعاهدات أو الانسحاب منها.. والرؤية المحيطة، والنظرة السعودية الشاملة، وقوة الإبصار بالحصافة والعقلانية للشؤون العربية والإسلامية والدولية، مع الثبات على المبادئ الإنسانية الأصيلة، والقيم الإسلامية المعتدلة، والمواقف السياسية النزيهة، أكسبت المملكة التجربة الثرية للاستفادة من حنكتها السياسية، للتعامل مع الاختلافات الشاسعة بين حضارتها، وتاريخها ومكانتها العربية والإسلامية، وبين حضارات الدول الشرقية والغربية المختلفة. وتقدير التنوّع الثقافي والاجتماعي الذي يدفع التقدّم الإنساني والحضاري.. ولقد أجمع المراقبون الدوليون في معظم دول العالم التي تعاملت مع المملكة على أنها لملمس تفاوتاً أو تبايناً أو تناقضاً في الدبلوماسية السعودية المتأنية المحسوبة. واشتهرت المملكة بين الدول الفاعلة في النظام الدولي بتطابق أفعالها على أرض الواقع مع أقوالها المعلنة.. وبسبب المصداقية التي تتصف بها السياسة السعودية على مدى العقود الأخيرة، برزت كواحدة من أكثر الدول نشاطًا وتأثيراً في الشرق الأوسط والنظام الدولي؛ لذلك عزَّزت المملكة مكانتها بين دول العالم، وحظيت بالاحترام الحضاري، وعلو الشأن، ونالت التأييد من الدول المختلفة، وخاصة من الدول العظمى المؤثّرة على المسرح العالمي «دول أوروبا الغربية، وروسيا، والصين، والولايات المتحدة الأمريكية»، بدءاً من العلاقات الدبلوماسية المتبادلة للوصول إلى لغة التفاهم التي تحقق الإقناع في صياغة القرارات الدولية المؤثّرة، والمواقف العالمية التي تحدِّد آراء واتجاهات الدول المختلفة، وتحقق مصالحها المشتركة.. والمصداقية القوية للدولة ستردع الخصوم، وسَتُطمئن الحلفاء، وسيسود بسببها الاستقرار الجيوسياسي النسبي، ويبقى ساكناً وثابتاً كما كان عليه دون تغيير؛ لذلك يعتبر مفهوم المصداقية مكونًا مركزيًا في نظرية الردع. وتستند نظرية الردع على افتراض مفاده أن القوة هي أفضل علاج للقوة، وقد استطاع هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، أن يصف مصداقية الردع بشكل دقيق، حيث قال: «مصداقية الردع والقمع هي مزيج من الإرادة السياسية والقوة العسكرية لاستخدامها من قبل الدول، وتجعل المعتدي المحتمل يُقيِّم هذه المصداقية، ويقدرها حق قدرها، ويدرك ويفهم عواقب الردع».. وعاصفة الحزم في اليمن خير مثال على مصداقية الردع؛ إذ إنها من المنظور المحلي شاهد على مطابقة الفعل للقول؛ ومن المنظور الإقليمي في الشرق الأوسط، تؤكّد عاصفة الحزم على استعداد المملكة لتنفيذ إرادتها السياسية باستخدام قوتها العسكرية لحماية أمنها الإقليمي من المعتدي المحتمل.