فهد عبدالله العجلان
جداف باينغ مزارع هندي يبلغ من العمر 60 عاما،ً بدأ يلاحظ موت الأشجار في محيطة البيئي وهو لم يتجاوز العشرين عاماً، فأخذ يستقل القارب يومياً ويبحث عن أرض فارغة ليزرع فيها شتلة، وبعد أربعين عاماً كانت نتيجة عمله غابة من الأشجار أكبر من حديقة سنترال بارك في نيويورك! هذه القصة اطلعت عليها بأكثر من رواية، فالبعض يتحدث عن المواطن الهندي عبدالكريم في ولاية كيرلا الذي زرع غابة كاملة بجهده، وآخرون يتحدثون عن شخص بنجلاديشي قام بالعمل نفسه، لكن أياً ما كانت الشخصية أو تعددت القصص فالعبرة بدروسها!
كثيرٌ من هذه القصص تمر بنا وقد لا تكون الفريدة في روايتها لكننا كثيراً ما نتوقف عند الإعجاب بالشخص أو البيئة التي منحته الظروف الملائمة للإنجاز، لكن في نظري هناك أبعاد أكثر أهمية لا بد من إدراكها في القصة، ولعل إدراك دروسها يصل إلى جميع مؤسساتنا وأهمها التعليمية والإعلامية. أولاً أهمية الزمن في الإنجاز فلا يمكن تحقيق إنجاز سريع دائماً، وإذا تحقق لأفراد ومؤسسات في ظروف تاريخية معينة، فإنه ليس السنة الكونية المتواترة في النجاح، وهو ما يمثِّل عنصراً مهماً في الحياة التعليمية لا بد من غرسه ليتعلَّم الناشئة المثابرة والصبر، فللأسف تنشأ وتتشكل ظاهرة داخل الجيل الجديد؛ أن النجاح والإنجاز يمكن تحقيقه سريعاً، حيث لا يريد أحد أن يبني أو ينتظر ثمار غراسه، فالكل مولع بالسرعة ونجاح نموذج بناء البيوت المتحركة المتنقّلة!
الدرس الثاني يكمن في أنه لا ينبغي الاستعجال بالتكريم والتسليط الإعلامي على نجاح مسؤول تنفيذي في مشروع أو مبادرة حتى ينجز جلها أو جزءها المهم، لأنه وللأسف أصبح الإبراز الإعلامي لبعض المشاريع في مهدها وبما يتجاوز التعريف بها أو التشجيع بالمشاركة لإنجازها، سبباً في قتلها وإغراق القائمين عليها بالوهم، مما يجعل القائمين على المشروع يبحثون عن مشروع آخر جديد يظهرون به في وسائل الإعلام لتكرار النشوة قبل تحقيق أي إنجاز، وفي قصة جداف باينغ مفتاح هذا الدرس الذي يكمن في التعاطي مع الإنجاز بطمأنينة، فقد تعرَّفت عليه وسائل الإعلام المحلية الهندية من خلال جهده الذي بذله وحديث الناس عن كفاحه وإصراره رغم قلة الإمكانات والدعم وقد كرَّمته الحكومة الهندية على أعلى مستوى بعد أن تحدث الجميع عن عمله.
لست أدعو في هذا المقال إلى وأد الحماس والابتكار الخلاَّق الذي يحقق المعجزات والإنجازات الاستثنائية، فأنا تلميذ الاقتصاد الذي يدرك تطور مفهوم أدبياته التقليدية بعد أن كانت تعرف عناصر الإنتاج في إطار ثلاثي لا يتجاوزها وهي: (الأرض والعمل ورأس المال)، لتتطور في الاقتصاد الجديد المستند إلى المعرفة فتشمل عنصر جديد - نسبياً - وهو الـ(ENTERPRENURE) أو ما يُسمى المغامر أو المبادر الذي يذيب حدود الطاقة القصوى لتلك العناصر لتتجاوز مخرجاتها التقليدية، لكن هذا النمط الجديد من المخرجات ينبغي أن لا يحيدنا عن الوعي بقيم وآليات الإنتاج الراسخة خصوصاً في الوعي المجتمعي العام، فالتوازن بين الأمرين مطلب ضروري لتحقيق التنمية المستدامة!
المسار الاقتصادي اليوم في زمن الثورة الرابعة وإنترنت الأشياء يقلِّص الوعي بالزمن وأثره في تحقيق الإنجازات لدرجة تغيب معها تلك القيم الراسخة، ويمكن فهم هذا المسار على صعيد النمو الاقتصادي من خلال رصد ثورة القيمة المعرفية المضافة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي اليوم، حيث تأتي أغلب هذه القيمة من شركات لم تبدأ قطاعاتها في التشكل إلا في منتصف التسعينات، لكن مشروع التنمية المستدامة الذي يتعامل مع ملفات عالية الحساسية تتصل بالأمن الوطني كالبطالة، ففي نظري حتى وإن فتح الواقع اليوم آفاقاً واسعة للاقتصاد الجديد إلا أن القيم الراسخة للإنتاج لا بد أن تكون سياجاً حامياً لأهدافه التي تعتمد على الشمولية والمراجعة. فالرؤية التنموية التي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان جاءت في نظري لتوازن بين الأمرين في الوعي المجتمعي للمرحلة القادمة من خلال إعادة بناء قيم العمل والإنتاج في الاقتصاد من خلال إعادة علاقة الموظفين والعاملين بالمؤسسات بما يحقق التقييم العادل للإنجاز والمساءلة والمحاسبة على التقصير، وكذلك إعادة صياغة الأنظمة والقوانين بما يضبط العلاقة بين المنتج التقليدي والمبادر الخلاق مع الموارد الاقتصادية دون إغفال دعم الابتكار والإبداع والتحول بمعايير الثورة الرابعة التنافسية وتوازن هذه المعادلة هو الرهان الذي سيحققه الاقتصاد السعودي -بإذن الله - في المرحلة القادمة.