عبدالمجيد بن محمد العُمري
يقول الشاعر:
أعز مكان في الدنيا سرج سابح
وخير جليس في الأنام كتاب
من المسلمات أن صحبة الكتب من أمتع العادات وأكثرها فائدة وأعودها بالمنفعة على صاحبها، فالقراءة هي باب المعرفة، وخير وسيلة لبناء المثقف والعالم وتكوينه العلمي وصقل مواهبه، هذه هي الحقيقة التي أجلها الأولون وغفل عنها المتأخرون، وللأسف أن القراءة اليوم انحسرت بسبب زحف وسائل الاتصال الحديثة ووسائطها.
قبل سبعين عاماً وتحديداً في عام 1372هـ وفي (حراج الكويتية) بمدينة الرياض الحالمة آنذاك اشترى الفتى ناصر الصالح العُمري، من المكتبة الأهلية الكتاب الأول في رحلته مع الكتب، وكان هذا الكتاب (جواهر الأدب) وجرياً على العادة، ولتأكيد الملكية وخشية ضياعه بين أيدي مستعيريه فقد وسمه باسمه وعنوانه كاتباً: (لقد دخل هذا الكتاب في ملك الطالب في المعهد العلمي بالرياض ناصر الصالح العُمري المولود في الرس من أعمال القصيم).
ولحرصه عليه وعلى وغيره من الكتب لمافيه من قيمة أدبية وتاريخية فقد عمل على تجليده فذهب به إلى المجلد (الحباك) قبل أربعين عاماً، ولكنه مزع الورقة (المزبورة) فيها تلك العبارة العتيقة فلكأنه مزع نياط قلبه.
وكان للشيخ ناصر عناية فائقة بالكتب جمعاً واحتواءً، ثم قراءة واطلاعاً، وتعليقاً واستدراكاً على بعض مافي الكتب، وهذه حقيقة عايشتها وعرفتها عنه على مدى عقود من الزمن -متعه الله بالصحة والعافية-، ومن وفق للجلوس مع الشيخ واستمع لحديثه فسيجد من الأنس والعلم والفوائد والفرائد والتقاط الدرر واقتطاف الثمر ما يجعل المستمع يتمنى ألا ينفض مجلسه معه، وقد كان للقراءة أولاً وأخيراً دور كبير في هذه الحصيلة القوية في العلوم الشرعية والأدبية والثقافة العامة يعززها مؤهله العلمي العالي من المعهد العالي للقضاء وكلية الشريعة، والسيرة العملية مع كبار المشايخ والقضاة في دوائر القضاء والحقوق والرقابة وغيرها.
وقد تكون شهادتي في شيخنا مجروحة لما يغلب عليها من العاطفة بحكم القرابة، ولكن هذه شهادة منصفة جاءت في معجم أسر الرس لمؤلفه معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي، وهو الإصدار الثالث في بابه بعد معجم أسر بريدة وأسر عنيزة، حيث جاء في الجزء الثالث عشر ترجمة لأسرة العُمري من سكان محافظة الرس ومما قاله العبودي: إنهم فرع من أسرة العُمري الكبيرة في منطقة القصيم وأصلها في بريدة ثم أشار لشيخنا وأديبنا فضيلة الشيخ ناصر بن صالح العُمري فقال بعد اختياره مقالاً كتبه الشيخ ناصر: إنني رأيت له نقداً لأحد الكتب الصادرة لأحد المؤلفين وهو نقد دقيق ومؤصل وفيه من الملحوظات والفوائد في متون الكلمات وفي الجمل والأسلوب والتعبيرات ما يستحق أن ينشر بل ما يستحق أن يؤثر للأستاذ العُمري لذا رأيت إثباته على طوله لأن الطول أو التطويل في الفائدة أمر مطلوب، ومقاله ليس نقداًً للكتاب وحده بل هو نقد لجمل وتعابير شائعة رغم خطأها وستراها في ثنايا مقاله النقدي الرصين)، وقد نشر المقال بكامله والمقال المعني هو (قطرات من سحائب الذكرى) وكانت المقالة قراءة نقدية انطباعية للكتاب الذي ألفه معالي الأستاذ/ عبدالرحمن بن محمد السدحان عن سيرة حياته، ونشر المقال في صحيفة الجزيرة.
أما الشهادة الأخرى على علو كعب الشيخ ناصر في بيان القلم لغة وأسلوباً فقد جاءت من الأستاذ حسين العذل في مقال كتبه في صحيفة الجزيرة في يوم السبت 12 شوال 1429هـ ومنها: (أثناء إحدى المسامرات الرمضانية التي جمعتني بالأخ الأستاذ سليمان الجاسر الحربش - الأمين العام لصندوق الأوبك - قادني الحديث إلى رثائه لزميله وصديق الجميع المرحوم د. صالح العبدالله المالك - الأمين العام لمجلس الشورى - وكم كان ذلك الرثاء مؤثراً ينمّ عن أصالة وعاطفة لا تعرف إلا الحب ولا ترى الأحباب إلا بمنظار أبيض. وكعادته تحدث أبو زهير وأفاض عن الفقيد المرحوم، واستعرض ما كتب عنه، وتوقف طويلاً عند ما كتب الأستاذ ناصر الصالح العُمري في جريدة (الجزيرة) الغراء تحت عنوان: (بديع الزمان في جوار الرحمن)، وتفضل أبو زهير بتزويدي بصورة عن تلك المقالة قرأتها مرات ومرات لاختلافها الجذري عن المألوف في أدبيات الرثاء، فحركت كوامن كادت أن تموت بفعل السنين، ولكن كرم رئيس التحرير الأستاذ خالد المالك أتاح لها أن ترى النور على صفحات جريدتنا الغراء، ويسترسل العذل في الحديث قائلاً: لقد أعادني الأستاذ ناصر إلى عصور ازدهار اللغة العربية وسلامة اللسان بتناوله الموضوع من زاوية غير تقليدية واستعماله لمفردات لغوية أصيلة في سياق سهل ممتع يصحب القارئ من خلاله في رحلة مع الفقيد تلقي الضوء على مناقبه وأريحيته وعفويته وترسم صورة واضحة لتلك الفترة من تاريخنا.
ويختم مقاله عنه فيقول:
وكم أبهجني ذلك الوصف الدقيق لبرنامج الحياة اليومية في تلك الأيام والسكن التكافلي واحترام الكبير والنشاط الأدبي، ثم هو بسمو أخلاقه ينسب كل فضل ونجابة إلى الفقيد إيثاراً لأنه يستحق ولأنه يود ألا يكون لذاته وجود أثناء الحديث عن الفقيد، وهي شيمة وأريحية لا أستغربها على من نشأ على يد المربي صالح العُمري يرحمه الله.
وليت الأستاذ ناصر يلتفت إلى الكتابة عن تلك الفترة من منظور أدبي واجتماعي لأنه شاهد عيان حباه الله بأسلوب شيق وذائقة رفيعة وذاكرة متوقدة وألا ننتظر لرائعة أخرى لا ترى النور إلا بفَقْد عزيز علينا وعليه).
وأظن أن في هاتين الشهادتين مايغني عن شهادة الحبيب والقريب، وإن كنت أعلم عنه الشيء الكثير.
أما وقد مرت هذه السنوات العديدة من عمر الكتاب الأول وما تلاه من كتب فنحن ننتظر وبشوق كبير إلى أن يتحفنا الشيخ ناصر بالفرائد والفوائد من رحلته مع الكتب في كتاب مستقل وأن يجمع مقالاته في الصحف والمجلات بين دفتي كتاب، وبما أن حديثي يتعلق بالكتاب وأثره المعرفي على القارئ، فإنه يحسن أن أختم المقالة بمثله وجنسه فلا نتصور أن كتاباً يغلف بوجه واحد:
قال الشاعر:
مللت كل جليس كنت آلفه
إلا الكتاب فلا يعدله إنسانُ
عاشرته فأَراني كل مكرمة
له عليَّ رعاه الله إحسانُ
شعر: عبدالمجيد العُمري