د.فوزية أبو خالد
(1)
تابعت كما تابع الكثيرون عربياً وعالمياً الإيقاع المتحفز لانتخابات الرئاسة الأمريكية، ولكن ربما مثل الغالبية التي ليس لها كبير ناقة ولا جمل في انتخابات الآخرين، وخلافاً للبعض المتحمس والمبالغ في تعليق آمال من خيوط متخيلة على هذا المرشح أو ذاك، كانت متابعتي أقرب إلى متابعة عين المراقب الفاحصة لمتعة المراقبة المعرفية ليس إلا.
والحقيقة إنني منذ كنت طالبة جامعية بأمريكا وكنت أدرس مقررًا من قسم العلوم السياسية بالجامعة مختصًّا بانتخابات الرئاسة الأمريكية، بما فيها تحليل تلك الحملات الباهظة التي لا يستطيع أن يخوضها إلا الحزب الجمهوري المحافظ أو الحزب الديمقراطي الليبرالي بما يواري حظوظ أي حزب أو مرشح آخر من خارج تلك المؤسستَين الحزبيتَين المهيمنتَين على خيار الناخبين الأمريكيين. كنتُ قد لاحظتُ ما قد يُعتبر معلومة أولوية في السياسة الأمريكية مما لا بد للمتابع العربي وللساسة العرب أن يأخذوه في الاعتبار تحديداً، سواء في المتابعة لانتخاباتها، أو في العلاقة معها. وهي الأولوية الأمريكية غير المتغيرة بالتغيرات الرئاسية والحزبية التي تتلخص في أن أيًّا من الحزبَين (الجمهوري والديمقراطي) لا يخيَّر أحدهما على الآخر حينما يتعلق الأمر بسياسة أمريكا الخارجية؛ لأن المصلحة الأمريكية اقتصادياً وسياسياً، وضمان منفعة أمريكا وسيطرتها العالمية، تأتي أولاً، وتأتي أخيرًا. وعلى أن هذه الأولوية الأمريكية كترمومتر لعلاقات أمريكا بحلفائها وأعدائها المتغيرين حسب معادلة المصالح, وإن اتسمت بعض من تلك العلاقات بثبات تاريخي نسبي, تعتبر بديهية، يعرفها هواة المتابعين، فضلاً بالضالعين, فإن تلك الأولوية البديهية تُنسى في حمى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ويتأرجح المشفقون على مصالحهم المعلقة حقًّا أو وهمًا، طوعًا أو كرهًا, بين الرجاء واليأس.
على أن ذلك القول لا يمنع من الإقرار بوجود علاقات تتسم باستقرار تاريخي نسبي بين أمريكا وبعض دول المنطقة، وأخص بالذكر هنا بينها وبين المملكة العربية السعودية، وإن نبع ذلك الاستقرار التاريخي النسبي من استمرار تعالق المصلحة الأمريكية مع منابع النفط السعودي، وسياسة المملكة المعتدلة في تسويقه من ناحية، ومن وجود نزعة سياسية سعودية تاريخية للتحفظ العاطفي في العلاقات الخارجية، بل الإقليمية والعربية، مع ميل واضح لعدم التسرع في إعلان المواقف أو المبالغة فيها من الناحية الأخرى. وإذا كان هذا يعني أنه وإن كانت للدول العظمى مصالح عليا، تُحالف أو تُعادي أو تحيد في ضوئها، فإن هذه الدول أنى بلغت من القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية لا تتحرك في فراغ، ولا يمكن أن تتجنب جدل العلاقات الطبيعي مع الآخر. ولهذا فإن الجدير بنا كسعوديين أن نمضي في بناء أنفسنا كدولة متفوقة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، تعزز نفسها بمجتمع مدني، وبمنظومة قانونية، وبمشروع وطني سعودي وعربي قادر على تنويع علاقاته الخارجية، ومتمكن من إدارة التحالفات الإقليمية والعالمية من موقع المبادرة والتأثير، وليس من موقع ردات الفعل بما لا يسمح لأي كان بأن يضعنا في موقع الدفاع عن النفس، ودون الحاجة لمن يدافع عنا أو يقنعنا بقدرته على ذلك.
والواقع أن العلاقات السعودية - الأمريكية لها رصيد تاريخي يكفي لعدم الارتهان لهذا الحزب الحاكم أو ذاك في العملية الديمقراطية الأمريكية الداخلية، ولتكون علاقتها مع دولة أمريكا وليس مع منتخبها الرئاسي، أكان ترامب أو بايدن, زيدًا أو عبيدًا, الذي أنى طالت مدة رئاسته فلن تزيد على أربع سنوات في حدها الأدنى، وعلى ثماني سنوات في حدها الأعلى.
(2)
النقطة الأخرى التي لا يجدر تجاهلها في سياق هذه الأطروحة على هامش الاهتمام العالمي والعربي والعالمي بانتخابات الرئاسة الأمريكية هي نقطة تتعلق بالأهمية المركزية والأساسية لموقف المجتمع الأمريكي نفسه في معادلة الفوز والخسارة باعتبار العملية الانتخابية امتحانًا دوريًّا كل أربع سنوات لمدى قدرة أمريكا كمجتمع وكمؤسسة سياسية، وكنظام ودولة، في الحفاظ على الديمقراطية على الأقل بشكلها المطروح. والواقع أن ما شهده الإعلام العالمي من يوم 3 نوفمبر لم يكن إلا انعكاسًا لسباق أمريكا للنجاح في الامتحان الديمقراطي. وعلى سبيل المثال فقد حذر السناتور ساندروز مقدمًا من أية محاولة للالتفاف على العملية الديمقراطية بدواعي محدودية التنقل التي يفرضها ظرف الجائحة الذي رجح نسبة التصويت البريدي في بعض الولايات, مطلقًا صرخة التحذير: «كل صوت يجب أن يحسب، ولا يُكتفى بالأصوات الحضورية في التوصل لقرار من المنتخب الرئاسي لأمريكا للأعوام الأربعة القادمة». وعلى الخط نفسه في الخشية من السقوط في امتحان العملية الديمقراطية كتب توماس فريدمان في 4 نوفمبر بالنيويورك تايمز مقالته بعنوان «هناك خاسر مساء الأمس» ويقصد (يوم 3 نوفمبر), محذرًا من أن يكون الخاسر هو الشعب الأمريكي برمته لو جرى توقيف التصويت كما طالب ترامب قبل عد كل صوت من أصوات الناخبين. والحقيقة إن فوز بايدن ممثلاً للحزب الديمقراطي بأغلبية أصوات الناخبين قد لا يكون بالضرورة إعجابًا مطلقًا ببرنامجه السياسي، أو اقتناعًا بشخصيته الفذة في إدارته الرئاسية للبلاد داخليًّا وخارجيًّا، وخصوصًا أنه لم يظهر له أي حضور كاريزمي كبير في المناظرات، إلا أن كل ذلك أو بعضه محكه الحقيقي عند الناخبين الأمريكيين هو الميدان العملي والفعلي للسلوك الرئاسي إبان السنوات الأربع القادمة. وهذا على وجه التحديد (أي الأداء الميداني تجاه الدستور الأمريكي وقيم المجتمع الأمريكي) هو الاختبار الذي لم يستطع أمريكيًّا أن يجتازه ترامب، وذلك من خلال محكات مفصلية عدة، أولها موقفه العنصري البواح تجاه كل عنصر عرقي أمريكي غير العنصر الأبيض الآري, وعنصريته تجاه مفهوم حقوق الإنسان، وما فصله الأطفال عن ذويهم المهاجرين إلا مثال صغير. وعدم مبالاته بالأغلبية المطحونة من الشعب الأمريكي، وعدم اهتمامه بالقاع, وعدم علميته وضربه بالحقائق المعرفية عرض الحائط كما تبدى في تعامله مع جائحة كوفيد 19 من الكمامةللقاح، واتهام الصين بالتسبب بها, وتعامله المتعالي مع كل شرائح المجتمع الأمريكي مهنيًّا وعرقيًّا وعقائديًّا، بمن فيهم الصحفيون والصينيون والمكسيكان والمسلمون.. إلخ. واللافت أنه مع إقرار واسع بقدرته على تحسين أداء الاقتصاد الأمريكي، وبقدرته على مقاومة الشهوة الأمريكية في التورط في حروب خارجية خلال سنوات رئاسته, إلا أن ذلك - على ما يبدو - لم يشكل كفة كافية لتعادل استخفافه بالعملية الديمقراطية نفسها؛ بدليل موقفه غير المسبوق الرافض لتقبُّل العودة من منصب الرئيس إلى موقع المواطن الأمريكي العادي كما كان الأمر مع كل سابقيه من رؤساء أمريكا.