تعيش بلادنا -ولله الحمد- حالة فريدة من الأمن والاستقرار قلَّ أن يوجد لها مثيل في عالم اليوم، وذلك على الرغم مما تتعرض له من مؤامرات، وما يُحاك لها من دسائس تتفنن شراذم قوى الشر في حبكها، وتجتمع لتخطط لها في ظلام حسدًا من عند أنفسهم لما تعيشه المملكة من تنمية ونهضة وتطور وما تبذله من جهود متواصلة للانطلاق نحو آفاق رحبة لتحقيق الرخاء على أرضها.
نعم إن وطننا تستهدفه المؤامرات والأحقاد التي يسعى أصحابها للنيل من أمننا، وزعزعة استقرارنا، والوقوف ضد تقدمنا ونهضتنا، ولا تخفى على أحدٍ منابع تلك السموم الدفينة أو الأحقاد المتراكمة بعد أن أصبح واضحًا للعيان مصادر تخطيطها وتمويلها، وأساليب ترويج دعاواها الباطلة وإشاعاتها المغرضة،وصار واضحًا أمام العالم أجمع توجُّهات أصحاب تلك الأحقاد نحو تكثيف محاولاتهم الدنيئة للنيل من بلادنا، حتى وصلوا بخسِّهم ودناءتهم إلى إرسال الصواريخ والطائرات المسيرة إلى بلاد الحرمين الشريفين دون رادعٍ من دين أو خلُق أو قانون دولي.
وتواصلت الأحقاد ولم تتوقف المحاولات البغيضة التي كثَّفت دسائسها للنيل من الوحدة الوطنية والتلاحم المتميز بين أبناء الوطن والتفافهم حول قيادتنا الرشيدة الحكيمة، ولكن هيهات هيهات لتلك المحاولات الرخيصة - مهما اشتد سُعارها - أن تنال من هذا الوطن، أو تمسَّ وحدته فهي بفضل الله قوية راسخة رغم أنف الحاقدين، ولا نقول ذلك من قبيل محاولة الرد عليهم والدخول في تفنيد ادعاءاتهم وضلالاتهم أو من قبيل الحماسة والتسلح بعبارات إنشائية تسعفنا بها مفردات لغتنا العربية، بل إن تاريخ المملكة العربية السعودية - منذ تأسيسها - وواقعها المعاصر المشرق هو الذي يؤكد لنا ولغيرنا أن الفشل هو الحليف لكل حاسد على هذا الوطن وكل حاقد على وحدته الوطنية، فقد ارتسمت ملامح هذه الوحدة وتأسست قواعدها منذ قيام هذا الصرح الكبير للوطن على يد المغفور له الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، الذي أدرك بوعيه أن وطنًنا الذي تترامي أطرافه، وتمتد أراضيه على مساحة واسعة تتساوى في رقعتها مع مساحة عدة دول، هذا الوطن الذي عاش فترة من الاضطراب الأمني وعدم الاستقرار لا يمكن أن تتحقق له وحدته أو يأمن أبناؤه فوق أرضه إلا تحت مظلة وحدة وطنية تقوم على أساس راسخ من العقيدة الإسلامية، ولذلك حرص الملك المؤسس يرحمه الله أن يوحِّد هذا الكيان الكبير، ويجمع شتاته ويؤسس بنيانه تحت راية واحدة تحدد له هويته الوطنية، وهي راية التوحيد الباقية ما بقيت الحياة لأنها تقوم على شريعة الله الخاتمة الخالدة التي أنزلها رب العالمين لتكون خاتمة للرسالات إلى البشرية جمعاء، ولذلك فإن وحدةً وطنية تقوم على هذا الأساس المتين لا يمكن أن نتصور أن معاول الشر تقدر على المساس به.
ولذا فقد أكد الملك المؤسس يرحمه الله وفي أكثر من مناسبة على ذلك الأساس القوي الذي أقام وأسس عليه هذا الصرح الموحَّد الكبير، حتى إنه يرحمه الله أكد على ذلك عند مخاطبته لأعضاء مجلس الشورى حين قال لهم «إنكم تعلمون أن أساس أحكامنا ونظمنا هو الشرع الإسلامي، وأنتم في تلك الدائرة أحرار في سَن كل نظام وإقرار العمل الذي ترونه موافقاً لصالح البلاد؛ على شرط ألا يكون مخالفاً للشريعة الإسلامية؛ لأن العمل الذي يخالف الشرع لن يكون مفيداً لأحد».
وقد استطاع الملك المؤسس أن يقيم أنموذجًا يعتز به التاريخ على مرِّ العصور، فقد أرسى بعد أن وحّد البلاد دعائم وحدتها فسهر على نشر الأمن في ربوع الوطن، وبذل جهودًا متواصلة حتى يأمن الناس على عقيدتهم وأنفسهم وممتلكاتهم وأعراضهم، وكان لإقامته شرع الله القويم الأثر الذي انعكس على الحالة الأمنية في الدولة، تلك الحالة التي رصدها أبناء هذه البلاد قبل توحيدها، وحتى لا نذهب بعيدًا فقد تمكن الشاعر ابن عثيمين أن يرسم لوحة لهذه الحالة المضطربة من الأمن التي عاشها الناس قبل توحيد الوطن وإقامة الوحدة الوطنية على أرضه ونقتبس بعضًا من وصفه لهذه اللوحة المضطربة حين قال:
فَقَد كانَ في نَجدٍ قُبَيلَ ظُهورِهِ
مِنَ الهَرجِ ما يُبكي العُيونَ تَفاصُلُه
تَهارَشَ هذا الناسُ في كُلِّ بَلدَةٍ
وَمَن يَتَعَدَّ السورَ فَالذِئبُ آكِلُه
فَما بَينَ مَسلوبٍ وَما بَينَ سالِبٍ
وَآخرَ مَقتولٍ وَها ذاكَ قاتِلُه
ومع استقرار الأمن على أرض المملكة، بدأت مسيرة من البناء وتتابعت مواكب للتنمية والعطاء، وحرص الملك المؤسس عليه رحمة الله أن يُعزز الوحدة الوطنية في ربوع الوطن وعمل على نشر الألفة والتعاطف والتعاون بين أبناء الوطن، وسعى في مختلف المناسبات لتذكير المواطنين - الذين تلاحموا حول زعامته - بالعلاقة القوية بين الراعي والرعية فأكد لهم ذلك قولاً وفعلاً، ومن ذلك قوله «كل فرد من شعبي جندي وشرطي، وأنا أسير وإياهم كفرد واحد، لا أفضِّل نفسي عليهم ولا أتبع في حكمهم غير ما هو صالح لهم».
كما كان يؤكد على تذكيرهم دائمًا بالقيم القائمة على الأخلاق الإسلامية النبيلة من نبذ الشقاق والخلاف، والحث على الترابط والتكاتف والتسامح والتسارع إلى الخيرات والتسابق في مجالاتها، كما حرص المؤسس الكبير يرحمه الله على تدعيم العلاقة بين الراعي والرعية فجعل بابه مفتوحًا أمام أبناء شعبه الوفي، يستمع لشكاواهم ويستجيب لمطالبهم، ويعزِّز علاقاته معهم، ويذكِّرهم بواجباتهم نحو الوطن تدعيمًا لوحدته الوطنية ليظل الوطن قويًّا شامخًا بقيادته وبأبنائه، ومما سجله التاريخ في هذا المجال قوله يرحمه الله «إن على الشعب واجبات وعلى ولاة الأمر واجبات؛ أما واجبات الشعب فهي الاستقامة ومراعاة ما يُرضي الله ورسوله، ويُصلح حالهم، والتآلف والتآزر مع حكومتهم للعمل فيما فيه رقيّ بلادهم وأمتهم. إن خدمة الشعب واجبة علينا؛ لهذا فنحن نخدمه بعيوننا وقلوبنا، ونرى أن من لا يخدم شعبه ويخلص له فهو ناقص».
وقد توَّج الملك عبدالعزيز عليه رحمة الله جهوده لتدعيم الوحدة الوطنية في المملكة الصاعدة باتجاهه نحو نشر مظلة التعليم على أرضها، فحارب الجهل الذي كان منتشراً واهتم بإنشاء المدارس لتعليم أبناء الوطن، لأنه كان يؤمن عن يقين بأن التعليم هو السلاح الذي لا يُمكن أن يقهر، وأنه هو الطريق للنهضة والتطور الذي كان ينشده للوطن وأبنائه، وهو الركيزة الأساسية التي يحقق بها تطلعات أبناء الوطن نحو التقدم والرقي في العلوم والمعارف.
وتواصلت جهود الملك المؤسس في تأكيد الوحدة الوطنية لأبناء الوطن، وتعزيز انتمائهم إليه واعتزازهم به، ثم جاء أبناؤه الكرام من بعده وساروا على نهجه القويم لتكريس الوحدة الوطنية
وحافظوا على الأنموذج الذي أسسه الملك المؤسس عبد العزيز طيب الله ثراه، وارتفعت راية المملكة خفاقة عالية، ووصلت المملكة إلى مصافِّ دول العالم المتطور، وشهد القاص والداني بعظمة الإنجازات للوطن في جميع الميادين، وصارت المملكة أنموذجاً في التلاحم بين القائد والرعية.
وإزاء هذه الحالة المتميزة من التلاحم، والنادرة من الإنجازات اشتدت الأحقاد من حولنا تستهدف أمن المملكة واستقرارها، وتطورها ونمائها، ووحدتها الوطنية الراسخة، فاستهدفت شباب الوطن تحاول النيل منهم مما يستوجب منَّا اليقظة الدائمة لحماية أبنائنا من الهجمات الشرسة البغيضة التي تسعى للنيل منهم والمساس بوحدتنا، فكيف السبيل لمواجهة ذلك؟ وكيف نحيط أبناءنا بسياجٍ من الحماية مما يُحاك ضدهم؟
هذا ما سنعرض له في المقالة المقبلة، والله الموفق.
** **
- وكيل الوزارة، بوزارة الثقافة والإعلام، سابقًا