عبده الأسمري
منذ أن بدأ الله خلق هذا الكون.. والحياة في انتقال عبر محطات التغير والتغيير والتطور والتطوير.. وكان الإنسان وسيبقى محوراً رئيساً لصناعة الجديد في هذه المحطات بواسطة «العقل» الذي يستطيع من خلاله وضع الأسس والأصول والحلول للنقلة النوعية في كل اقتدار أو ابتكار.
تغيرت معالم عدة وتبدلت مجالات عديدة وتقارب التواصل وأصبح العالم وكأنه في غرفة اجتماع واحدة، حيث باتت أحداث القارات تأتيك وأنت في منزلك دون عناء البحث، لكنها خاضعة لغثاء الشائعات.. لذا ظلت مجريات الأمور في المستوى الظاهر واضحة، لكن الخفايا تتخذ مسارين متناقضين ما بين الحقيقة والزيف.
ثمة تناقض بين تغير عجلة التنمية وتطور الآلات والمعدات والتقنيات وما بين بلاهة وبلادة طغت على الإنسان وسط تراجع مخيف لمعدلات الذكاء بين الأجيال الجديدة كونها تعتمد بشكل كبير على الأمور الجاهزة في المحتوى والمنتج والتخطيط والأهداف.
قلت وتراجعت معدلات «القراءة» الحقيقية التي تغذي العقل بالمعارف وبات الغذاء الفكري محدداً بالمعلومات «المعلبة» التي لا تستحق «التحليل» ولا تتقبل «التدبير» كونها أعدت عبر «البرمجة» الآلية التي بدأت تفكر أكثر من الإنسان.. لذا أحيطت العقول بسياج من التقييد فظلت الأفكار باهتة والمواهب مختزلة والمهارات غائبة في أجيال معدلة تقنياً خاضعة لسلطة «التزييف» ومحرومة من ثروة «التفكير» ومخطوفة إلى ثورة «التيسير»
تبدلت أمور شتى حيث غاب الحكماء عن مجالس «القرار» وتغيب النبلاء عن منصات «التكريم» وباتت الأمور تؤول إلى كفة بائسة رجحت «الحظ» وخدمت «العشوائية» لذا ظلت العقول في «إجازة» حتى إشعار آخر في ظل سطوة «الروتين» وسلطة «التكرار» والاتكاء على الجاهز الذي سيظل في قالبه «البائس» حتى تأتي «رحمة» التقنية فيحل برنامج جديد يتولى مهام وجدت لتلغي مهمة الإنسان الرئيسة في أعمار الأرض..
استيراد الأفكار أمر مؤلم، فالغرب الذين يتباهون بالابتكارات والاختراعات لم يكونوا كذلك لولا تدقيقهم وتحليلهم لتلك المواريث الكبرى من العلوم والمعارف التي عثروا عليها في كتب المسلمين وفي منازلهم أُثناء الاحتلال أو الاستعمار والغزوات القديمة.
لذا فإن الصناعة الفكرية مطلب لكي نتحول إلى «منابع» للابتكار وتكون لنا «الهوية» الإبداعية التي تجعلنا ننافس من خلال صنع «الفارق» ووضع «الفرق» في شتى مناحي التفوق..
وعلينا أن نرفع من مستويات المناعة العقلية لكل شرائح المجتمع حيال المؤثرات الموجهة لإلغاء الإبداع أو الاعتماد على الأفكار الجاهزة، لأننا في منافسة شرسة في الوصول إلى «الكينونة» المعرفية التي سننالها من خلال فرض «هويتنا» الثقافية في كل اتجاهات العالم سواء في مجال الأدب أو العلوم أو الآداب أو الطب أو الهندسة أو الفضاء أو الطيران وغيرها, ولقد حان الوقت لأن يكون لدينا فلاسفة وحكماء يرسمون مشهد «الانفراد» لنكون «وجهة» مفضلة للبحوث و«جهة» جاذبة للدراسات.
نحتاج انتفاضة فكرية تبدد غيوم «الاستهلاك» المعرفي وتجدد همم «الإنتاج» الفكري حتى نؤسس كتائب «معرفية «تمتلئ بقادة «التنوير» وتكتظ بحرس «التغيير» لرفع لواء «الثقافة» المتجددة القائمة على إصدار الأفكار واستصدار الابتكار بعقول نيرة تفرض وجودها في ساحات «التميز» بلغة واقعية من التفكير بعيداً عن التنظير..
الفيديوهات والوسائط اليومية يعاد تدويرها ملايين المرات عبر عقول تتابع وتتفرج فقط في حين أن المعنى في أن نجدد وأن نبتكر وأن نرفع مستوى «المناعة العقلية» لدينا حتى لا نكون صيداً سهلاً في قبضة التكرار، بل نداً صعباً يقاوم كل فرضيات الاستماع بصناعة فكرية خاصة تنقلنا من الجمود إلى الحراك حتى نجني ثمار الغد في مواسم الحصاد العالمي بواقع «التفرد» و«وقع» الإنجاز..
على الجهات المعنية أن تعيد النظر في خطط التفعيل الحقيقي للفكر كلاً فيما يخصه.. وأن يتم إجراء دراسات عميقة لقياس مدى «الأثر» وصدى «التأثير» الذي صنعه فكرنا الخاص في السنوات الخمس الماضية وهل كان لدينا تجديد وما مستوى تأثرنا باستهلاك ما يصل وامتلاك ما يحصل وهل تحولنا إلى مجتمع مستهلك؟!.
الصناعة الفكرية تبدأ من الإنسان الذي يشكل العنوان الرئيس لأي نقلة نوعية في الماضي والحاضر والمستقبل.