د. حسن بن فهد الهويمل
لله في خلقه سنن لا تتبدل، ولا تتحوَّل. وللحياة قوانين ثابتة لا تحيد. الحياة نظام: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}.
والجسم نظام، لا عبث، ولا خبط عشواء، كما يقال: (رَأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاء)، بل ولا هناك (صُدَف) كما يزعم الملحدون، كل شيء في كتاب من قبل بَرْءِ الحياة: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}.
وحتى الخلية لها ذات النظام في ثباته. جسمك تحكمه أجهزة، وغرائز، إنه في اضطراب، ولكنه اضطراب محكم، وفي جزر، ومد. ولكنه محسوب بكل دقة، بل كل خلية لها قانونها، وحركتها.
(النَّصْرُ، والهزيمَةُ) محكومان بقضاء الله، وقدره: (مَا بأَيِدْينَا خُلِقْنَا تُعَسَاء).
هناك نصر: حسي، ونصر معنوي. هزيمة الفكر غير هزيمة الذات، والثكنات، والكتائب. وانتصار الفكر غير انتصار الكيانات العسكرية.
هناك جيوش قوامها السيوف، والرماح، والراجمات، والقاذفات، والقاصفات. وهناك حُرُوبٌ قوامها القلم، واللسان، والفكر.
والنصر، والهزيمة لهذا، أو ذاك يتراوحان، تمشياً مع قانون التداول: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. وقانون التدافع: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِين}.
السؤال الأهم:
- أي الهزيمتين أخطر على الأمة، هزيمة الجيش، أو هزيمة الفكر..؟
الحق أن هزيمة الفكر أخطر، لأنها تشكل وعي الأمة على مراد المسيطر، وتصرفه. أما هزيمة الجيش فقد تَحْمِل المهزومَ على التحرف، أو التحيز، والفرار إلى الله لإعادة الكرة.
لقد عَبَّر الرسول -صلى الله عليه وسلم - عن ذلك عندما تحرف القائد الملهم (خالد بن الوليد) للتراجع، وتغطية الهزيمة، والخلوص من المعركة بأقل الخسائر.
فعندما وصف الصحابة الجيش بالفِرار من الزحف، قال الرسول: بل هم الكُرَّار.
الهزيمة الحسية هزيمة الذوات. لا تنهي المعركة، ولا تحسم الأمر، ولكن الهزيمة النفسية التي هي بعض الهزيمة الفكرية، تحمل على الخنوع، والاستسلام، وقبول الذل:
(مَنْ يَهُنْ يَسْهُلُ الهَوَانُ عَلَيهِ
ما لجُرْحٍ بميِّتٍ إيلامُ)
ينطفئ الحماس، ويخبو التوقد، وتألف النفس الذل، والهوان. وتتحقق الغثائية التي أخبر بها الرسول، فالكثرة المنهزمة نفسياً لا قيمة لها: (ولكنِّكُم غثاء كغثاء السَّيل).
ولهذا وصفت العزمات بالقوى المعنوية: {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِين}.
تركيز الإسلام على القوة المعنوية، وإن أعطى القوة الحسية أهميتها: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ}.
ولقد أوَّل بعض المفسرين (القوة) بالرمي، وفي الأثر: (ألا إن القوة الرمي).
والإسلام دائماً يتلمس الوسطية: أي التوسط بين طرفي الإفراط، والتفريط. وليست وسطية الخيرية.
هذه الوسطية جعلت الإسلام يأخذ من كل شيء بطرف. ويركّز على الثوابت، والأولويات: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا}.
فالتماسك، والتلاحم، والصفاء، ووحدة الكلمة، والهدف، والصف المرصوص من ثوابت الإيمان.
أمتنا تجمع بين الهزيمتين، فهي ضعيفة في قوتها الحسية: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً}.
وهي أضعف في إرادتها، وقوتها الفكرية، إيمان ضعيف: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ}.
الحَرْفُ: هو الطرف، ومنه حَرْفُ الجبل. أي أنه دخل الدين على طرف، ولم يتوغل فيه، ويتضلّع منه، ويتقوّى به.
فصلاح الدين عند هذا الصنف، وسوئه مرتبط بالمكتسبات المادية، والمعنوية. فإن فَسَدَتْ عليه دنياهُ، وتغيرت انقلب على وجهه خسر الدنيا، والآخرة. وكل ذلك ناتج الهزيمة النفسية هزيمة الفكر: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ}.
تلك هي حياة أمتنا تراجع، وخنوع، واستسلام، وتبعية مذلة: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلا}.
لقد لعب التضليل الإعلامي العالمي، والعربي العميل، ولعبت اللعب السياسية القذرة، والدور المرسوم لهما، وطمسا أعين الناس، حتى أصبح الرجل دمية تحركه أصابع قذرة.
وحتى أصبح عالمنا مسرح عرائس، يقول ما قالت: (حذام) وما حذام إلا إعلام الغرب، ولعبه.
وما (الربيع العربي) إلا مسرحه الخشبي يتهافت عليه الإنسان الثالثي ليحقق مراد الغرب، ورغباته.
الهزيمة النفسية ساقت عالمنا الثالثي إلى المقصلة، وكأنه يساق إلى الموت مغمض العينين، شارد الفكر.
وما حكاه (ابن كثير) في (البداية والنهاية) عن حملات التتار، يكاد يعيد نفسه في زمان الهزيمة النفسية، في عالمنا الثالثي، وإن كنت لا أمضي مع (ابن كثير) -رحمه الله - في مبالغاته.
كل ما نراه، وكل ما نتجرعه من مرارة ناتج الهزائم الفكرية، والنفسية، ولن يعود عالمنا إلى رشده حتى يعي واقعه، وحتى يمارس حقه بقدر استطاعته، ولن يتم شيء من ذلك إلا بعد الخلوص من تبعات تلك الهزائم الموجعة.
اللهم لا تُزِلَّ أقدامنا بعد ثبوتها، وثبت قلوبنا على طاعتك، كما أمرت، وكما تريد.