أ.د. محمد بن خالد البداح
يُقاس معيار تفوق المجتمعات المعاصرة بمقدار مرونتها الحضارية واستجابتها المسؤولة للتطور والتحول البناء الذي يخدم الأفراد والمجتمعات، والسعودية قفزت قفزات في ميادين كثيرة كان منها مؤخراً رئاستها لقمة قادة العشرين تلك القمة والقيمة التي تجمع أكبر الدول المؤثّرة عالمياً في مجالات السياسة والاقتصاد وغيرها، ولا يختلف اثنان على ما تمثّله المنظمات الرسمية وغيرها من ثقل مؤثِّر في أوساط المتلقين في المجتمعات الحضرية سواءً أخذت طابع الرسمي الديني أو الأهلي، فهي تدير دفة الانتماءات والولاءات وكذا الرأي العام في العديد من القضايا المستجدة مما يهم الناس.
ولما سبق وغيره كانت الاستعدادات تتم على قدم وساق للتحضير للمنتدى المصاحب والسابق لقمة العشرين الذي يحمل اسم «القيم الدينية» بهدف جمع الإيمان والسياسة وكذا الاقتصاد في مواجهة التحديات المعاصرة، حيث عقد افتراضياً منذ أيام قلائل في عاصمة القرار العربي «الرياض» هذا المنتدى الذي يضم أكثر من 500 خبير وقيادة وممثل ديني ومجموعة من الشركاء من المؤسسات المعنية بالشأن الديني والحوار التقاربي لتمثّل في مجموعها حزمة مساندة بالرأي لقادة مجموعة العشرين، وتكون منصة تعاون في مواجهة التحديات العالمية في شتى المجالات.
وهذه الجلسات شملت على عدة محاور من أهمها تهيئة الظروف الممكنة في الحصول على حقوق العيش والعمل وكذا حماية كوكب الأرض- الحيز المكاني المشترك بين البشر - من كل صور تأثير الفعل البشري والإنساني بالتلوث والتصحر وحماية الموارد من النضوب ومسألة «تغير المناخ» ومكافحة العنصرية والحد من خطاب الكراهية ومناهضته، وحماية التراث الديني والثقافي المشترك، كل هذا تحقيقاً لأهداف الأمم المتحدة الداعية للتنمية المستدامة كالقضاء على الفقر والجوع ودعم برامج الصحة العامة والمساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات والحفاظ على البيئة والمناخ وتوفير بيئة العمل اللائقة وصولاً للسلام والعدل.
ولأن التحديات المعاصرة تلقي بظلالها على المشهد الحالي كالحروب والأوبئة ومنها ما أعلن أنه جائحة عالمية (كورونا كوفيد 19) ونقص الموارد ونضوبها وغيرها وهي مما يشترك فيه البشر على هذه الأرض سوياً ويُعد التغلب عليها من المصالح المشتركة التي تستوجب العمل الجماعي والتعاون في حلها وتخطي تحدياتها وكلما كان المنطلق في التغلب على هذه التحديات منطلق المتفق عليه والمشترك في القيم الإنسانية كان هذا أدعى في الالتقاء والتعاون فيه ليقود للتعايش وعمارة الأرض ويقلّص فجوات الخلاف وتبعاتها.
والمشترك في شؤون الحياة والمعيش هو الأغلب والأكثر والاتفاق عليه كأرضية موائمة للتفوق الإنساني والعيش في تنمية مستدامة تأخذ بكل الظروف وتحقق الأهداف للمجموع، إن وجود إنسانية واحدة وثقافات وأعراق متنوعة هي المحفز للعمق الحقيقي للمشتركات الإنسانية التي هي نقاط ضوء في التقارب والتعاون الحضاري.
والحضارة والدين الإسلامي لديه موروث ممتد يدعو للتعايش والتعاون في التغلب على التحديات المشتركة ولا أدل على ذلك من تلك الوثيقة التي كتبت في صدر الإسلام لتنظيم حياة الناس في مجتمع المدينة الحديث والذي كان بمثابة «عقد اجتماعي»، حيث تؤكد على التعايش السلمي والتعاون المشترك، وقد أكدت على قيم سامية كالعدل والقسط وتنظيم شؤون السياسة الشرعية والحفاظ على العهود والمواثيق وحسن الجوار والتنوّع الثقافي وتحفيز دوائر العلاقات المحلية والإقليمية والعالمية.
وتقودني الذاكرة إلى منتصف عام 2013م عندما اشتركت ببحث عن التعايش والمشتركات الإنسانية في ندوة دولية رعتها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة «إسيسكو» في مدينة ليل في الجمهورية الفرنسية بمناسبة الاحتفال بالمدينة المنورة عاصمة الثقافة الإسلامية لعام 2013م، حيث شارك في الجلسة الافتتاحية مسؤول في البرلمان الفرنسي والأوروبي هو السيد جيل بارينو وقد أبهر الحضور عندما أشار لوثيقة المدينة وما حملته من مضامين داعية للتعايش السلمي.
ومن جملة تلك القيم المشتركة الحث على الأمانة، والصدق، وحسن الجوار، والإحسان للخلق، والبعد عن الخيانة والكذب والسرقة وغيرها، والناس في التمسك بهذه القيم متفاوتون نتيجة لطبيعتهم البشرية التي جبلت على الاختلاف.
فقد حث الدين الإسلامي على إعمار الأرض، حيث استخلفه الله فيها لعمارتها وتسخير خيراتها للعيش الكريم، والسماح للتمكين في الأرض، والاستخلاف فيها لا يتوقّع أن يتم إلا في ظل التعايش السلمي القائم على الاحترام بين كافة مكونات المجتمعات. والتأكيد على العيش السلمي المشترك؛ الذي تقتسم فيه الواجبات والحقوق، ويسود فيه العدل والتسامح.
وقد كان للخطاب الإسلامي المتزن إسهام في تعزيز المشتركات الإنسانية والدعوة للحوار والتعايش السلمي على مر العصور، وتقوم المرتكزات الإنسانية على جملة من المشتركات التي تجتمع عليها العديد من الديانات والاتجاهات الفكرية، وتتوافق فيما بينها، وتسعى للمحافظة عليها، فهي صمام الأمان الذي يحتم على الجميع حمايته وتنميته، وهو مكتسب جمعي مهم، ومن أبرز تلك المشتركات إقامة العدل وتحريم الظلم والعدوان، وتكافؤ الفرص، وحق التملك، وفتح المجال لتبادل المنافع البشرية وغيرها.
ونحن اليوم مدعوون لاستثمار هذا المشترك الإنساني، في صياغة برامج علمية تجسد تقارب الرؤى، وتوافق وجهات النظر إزاء كثير مما يواجهنا من تحديات ومشكلات.
إن هناك عدة دلالات لاحتضان المملكة العربية السعودية لهذا المنتدى الذي سيتبعه لقاء قادة العشرين وذلك لما تمثّله المملكة من مكانة دينية وسياسية واقتصادية، فهي العمق العربي والإسلامي وما تمثّله من قوة استثمارية رائدة هي محل الأنظار، فهي محور ربط القارات الثلاث.
وحيث يتبنى هذا المنتدى عدداً من حلقات النقاش حول دور الدين في بناء السلام ومنع النزاعات وكذا تمكين المرأة والشباب والضعفاء من سبل العيش الكريم، وتوفير الحق في التعليم، وتظافر الجهود البيئية في مواجهة مهددات تغير المناخ وحماية الكوكب وزيادة مساحة الرقعة الخضراء، والحد من مخاطر الكوارث الطبيعية والبيئية والأوبئة، وكذلك الحد من خطاب الكراهية المبني على أسس عرقية أو تطرف ديني، ومن ذلك منع وإيقاف التحريض على خطاب الكراهية المحفز للعنف ضد الآخر والمتبني لبعض الأجندات الجيوسياسية.
ولما كان الاقتصاد يمثّل عصب الحياة وهو الدافع للتنمية بشتى صورها فهو لا يتحقق دون تظافر جملة من الجهود المناظرة المتمثلة عبر مؤسسات القيادات الدينية والتوجيهية في العالم، وتعد مسانداً وداعماً للقادة في صنع القرار السياسي، فأتى هذا المنتدى ليجسد هذه المعاني ويحققها.
وما صور تقارب العالم في مثل جائحة كورونا (كوفيد 19) والسعي في الحد من شرورها، وما نتج من تداعيات مصاحبة إلا صورة جلية من صور التعاون والتقارب العالمي.
ودائماً كانت التحديات تمثّل منطلقاً مشتركاً لمزيد من التعاون والتقارب، إذ ليس هناك خيار آخر طالما نواجه مخاطر مشتركة، وعلى العديد من المؤسسات دور سواءً كانت هذه المؤسسات رسمية أو أهلية أو مؤسسات تعليم كالجامعات في إبراز هذا التميز لوطننا وديننا.
إن التعاون فاعل مؤثّر في معالجة الكثير من الظواهر، ولأن كانت التعددية الثقافية والحضارية بين شعوب الأرض من الحقائق المسلم بها فلا بد من تحفيز مؤسساتها ومنها القيادات الدينية ذات القيم السامية في الحث على الالتقاء وفق أطر المشتركات الإنسانية.
والحضارة الإنسانية تمثّل مكتسب وإرث إنساني تتشارك فيه كل الديانات والأعراف وإن اختلفت، إلا أن الاختلاف ليس من لوازمه الصراع والقطيعة، بل هو يفضي للتنوع الذي يقود للتكامل والتعاون والالتقاء على أرضية رحبة من التفاهم.
وبهذا تتهاوى كل الفرضيات التي نادت زمناً لحتمية الصدام والصراع بين الحضارات، كما دعا لذلك المفكر الأمريكي صاموئيل فيلبس هنتجتون بنظريته «صدام الحضارات» التي لم تكن واقعية في ظل ما نلحظه من تنافس شريف في التقارب والحوار المشترك المتبادل، وتغليب الالتقاء على أصول من المشتركات الإنسانية وقيم التضامن الخيرة.
إن أمامنا مسؤولية أخلاقية ودينية، وهي فرصة سانحة للتفاهم والحوار والتواصل الذي يقود للتعاون والتقارب المثمر في شتى المجالات.
** **
- أستاذ الدراسات الاستشرافية