هذه ترويسة معلقة طويلة للشاعر وصديق مدينة حرمه وأهلها الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، نشرت في 2-5-1392هـ في إحدى الصحف المحلية، عبَّر فيها الشاعر عند زيارته للبلدة أصدق تعبير يفيض محبه ووجداً لهذه المدينة الصغيرة الجميلة وأهلها، وقد وقعت في يدي من بين أوراقي القديمة؛ فهيجت مشاعري وزادتني وجداً على وجد، مع أني لست وفياً كما أحب لحرمة وأهلها الذين هم أهلي وقرابتي، ولعل لي بعض العذر حيث غادرتها بعد أن أمضيت فيها سنين الطفولة المبكرة، وأنا أدلف إلى الصف الرابع الابتدائي حاطاً الرحال في مدينة الرياض التي همت بها حباً ووجداً، ولم تسمح لي الظروف بالعودة إلى مسقط رأسي ومعشوقتي مدينة حرمه إلا لماماً ونادراً لساعات قصيرة، فانقطع حبل الوصال والمودة وانتقل جميع أقربائنا إلى مدينة الرياض؛ طلباً للعلم والعمل والتجارة.
وبعد أن أتممت دراستي الثانوية وتم ابتعاثي إلى البلاد السويسرية التي لا أجمل ولا أحلى منها بلاد، ثم إلى فرنسا بلد النور والجمال فإلى أمريكا الشمالية مروراً بتونس الخضراء وغزلانها البيضاء. تلك البلاد التي تتكون من خمسين دولة في دولة وتتنوع فيها العادات والمآكل والمشارب والتسامح وضده، وبعد سنوات تمت العودة إلى أرض الوطن المعطاء، وطحنتنا ماكينة العمل وطلب المعيشة وتكوين الأسرة، وتغيرت ظروف الحياة وأنسنا باجتماع العائلة الصغيرة والكبيرة والزوجة والأبناء، ولم تعد الحياة كما كانت سابقا قبل عشرات السنين من اليوم، حيث لم نعرف المذياع ولا المرناه ولا المسرح ولا السينما ولا الطائرات والمطارات والطرق المعبدة المشجرة أو القطارات والمولات والمطاعم وأنواع من المآكل والمشارب، أو بمعنى أدق لقد انقلبت الحياة رأساً على عقب.
كل شيء تغير حتى حرمه تغيرت وطالتها يد التطور والإعمار، ولم تعد تلك القرية الوادعة التي تنام مباشرة بعد صلاة العشاء وتصحو فجراً على أنغام نواعير استخراج المياه من الآبار لسقيا النخل.. وعادت بي الذاكرة إلى زمن الطفولة الأولى الهانئة الهادئة التي تملؤها المحبة والأنس والترابط بين الأقارب والجيران والأصدقاء.
سقى الله تلك الأزمان ورحمك الله يا دكتور خفاجي فقد هيضت بي وجداً على وجد وأدام الله عز هذه البلاد وأهلها الطيبين.