عبدالعزيز السماري
تعد الانتخابات الأمريكية الحالية استثناء في تاريخ السياسة الأمريكية، فالتوتر الحالي قد يؤدي إلى فقدان الثقة في دولة تقوم على مبادئ الديمقراطية الغربية كبنية أساسية في العمل السياسي، فلأول مرة دخلت مصطلحات جديدة إلى قاموس الناخب الأمريكي، مثل الدولة العميقة، وتزوير الانتخابات، وقد يكون لها تأثيرات سياسية عميقة في المستقبل الأمريكي.
مر ما يقرب من عامين منذ أن أصبحت «الدولة العميقة» جزءًا من المعجم الأمريكي. في أوائل فبراير 2017، بعد أسابيع فقط من تنصيب الرئيس دونالد ترامب، أشارت التقارير الإخبارية لأول مرة إلى زيادة استخدام المصطلح داخل الدائرة المقربة من الرئيس. وعلى مدى الأشهر التالية، قام الرئيس ومؤيدو إدارته بتزيين معنى الدولة العميقة وأهميتها علنًا، مما جعلها شعارًا للخصوم الداخليين داخل واشنطن، فقد أدى التحليل الإخباري للظاهرة إلى حد كبير إلى تسليط الضوء على الكيفية التي ساعدت بها النظرة العالمية للنشطاء اليمينيين مثل ستيف بانون وأليكس جونز في تعريف حلفاء الإدارة بمفهوم «الدولة العميقة».
على الرغم من أن التعامل مع المصطلح أخذ جانب الحذر في وسائل الإعلام السياسية، إلا أن فكرة الدولة العميقة قد اكتسبت بعض الأهمية بين الجمهور الأمريكي، وفقًا لاستطلاع مونماوث في ربيع عام 2018، فقد سمع 37 في المائة من المستجيبين عن شيء عما يسمى الحالة العميقة، وعندما سئلوا عما إذا كانوا يعتقدون أن هناك «مجموعة من المسؤولين الحكوميين والعسكريين غير المنتخبين الذين يتلاعبون سراً بالسياسة الوطنية أو يوجهونها»، اتفق ما يقرب من ثلاثة أرباع المستجيبين على وجود مثل هذه «الدولة العميقة».
يبدو أن مفهوم الدولة العميقة مستورد، ويعد جديداً في الثقافة الأمريكية، وعنواناً لصعود الفكر التآمري، وهو ما قد يحمل مستقبلاً غير مشرق للولايات المتحدة الأمريكية، ويعتقد المحللون الأمريكيون أن هذا المصطلح ظهر لأول مرة في تاريخ تركيا الحديث، فجمهورية تركيا قد أسسها أفراد ساعدوا في تشكيل «دولة داخل دولة» حقيقية خلال السنوات الأخيرة من الإمبراطورية العثمانية، كان مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الدولة، من بين الأعضاء البارزين في لجنة الاتحاد والتقدم، الحزب السياسي الذي حكم الإمبراطورية خلال عقدها الأخير وفي حين كان المسرح التركي السياسي يقدمه على أنه حزب مفتوح وملتزم بالحكومة البرلمانية وسيادة القانون، حافظ أعضاؤه على نظام سري موازٍ للسيطرة على الدولة.
كان الهدف من وجود الدولة العميقة المحافظة على ثبات منهج خروج تركيا من ماضيها العثماني، وتبني الدولة الحديثة على غرار الدول الأوروبية، ويقوم على تتريك السياسة والتعليم والاقتصاد والمجتمع، وفرض المنهج العلماني ليكون مدخلاً لقيام الدولة الحديثة، ولذلك كان دائماً ما يتدخل لوقف أي حالة نكوص إلى العهد الماضي.
بينما الفكرة التآمرية حول تزوير الانتخابات فكان مصدرها دول العالم الثالث، التي كانت تقوم بتنظيم انتخابات صورية، تنتهي بفوز الرئيس بـ99.9 في المائة، وهو ما أفقد الناخبين الثقة في الدولة، ثم تحولها إلى دولة أمنية، تقوم بفرض الواقع، ولو كان ذلك على حساب النزاهة والمصداقية، لكن ما لم يرد في خلد الناخب الأمريكي أن يحدث مثل هذا في أكبر معاقل الديمقراطية في الغرب.
قد يكون الوضع الأمريكي الحالي ضحية لانتشار فكرة المؤامرة، بسبب تبني السياسي الأمريكي لهذه المصطلحات لإنكار خسارته للانتخابات، وقد يكون هناك ما لا نعرفه، وقد تكشفه الأيام، لكن ما يجري سيظل علامة فارقة في تاريخ أمريكا السياسي، فهل ستعود الدولة العظمى إلى إرثها، أم تنجرف في متاهات المؤامرة المستوردة..