عمر إبراهيم الرشيد
لم أكن لأكتب عن هذه (الهبّة) لولا ارتباطها بثقافة التقليد وسيكولوجية الجماهير والانجراف مع التيار بغض النظر عن صحة وجمال هذا التيار من عدمه. لست ضد النهل من مباهج الحياة وجمالها وصفائها، لكن هناك فرق بين ذلك وبين بيع الوهم أو ترويجه أو استهلاكه. في الفترة الأخيرة أصبح معدل افتتاح المقاهي في مدن المملكة متسارعاً بحيث يفتتح مقهى كل أسبوع تقريباً في المملكة، وليت الأمر توقف على ذلك، إنما المشكل جودة ما يقدم من مشروبات ومخبوزات قائمة في إعدادها على كمية السكر وباقي المواد الأساسية من دقيق أبيض وزيوت مهدرجة وغيرها، إلا ما رحم ربي ولا أعمم لأن التعميم لغة الجهل، فهناك قطعاً مقاه تعمل عكس التيار جودة في العمل والبضاعة. هذا فيما يخص المقاهي، أما هذه الهبّة أو الحمى بتعبير أدق والتي أصبحنا فيها وخلال سنوات وجيزة شعب القهوة الأول كما يتوهم البعض، ونفهم في نكهاتها وأصنافها أكثر من غيرنا، بل يربط ويصنف البعض جودة المقاهي بما تقدمه من قهوة وهي لا تعدو منكهات ومحسنات للقهوة (التجارية) نفسها، وإلا لو قدمت القهوة بجودتها الأصلية وحبوبها المطحونة بدل مائها الأسود لما كفت حقول كولومبيا وإثيوبيا والبرازيل ما يقدم من قهوة حول العالم أجمع. أنا لن استطيع العمل والتركيز دون كوب القهوة المفضلة لدي، هذه العبارة التي باتت تتردد على ألسنة الكثيرين ذكوراً وإناثاً، فتيات وشباباً وكباراً، ولا ضير من ذلك لو كانت المسألة باعتدال ودون حمى استهلاكية لمجرد المباهاة في كوب قهوة لا يستحق عناء الوقوف في صف طويل وكأنهم في انتظار رشفة من الكوثر.
قرأت تقريراً قبل فترة عن مقاهي النمسا وعراقتها فعجبت من الحرص على التقاليد وعراقتها وهي جزء من الجو العام للمقهى والخدمة، عدا عن جودة القهوة نفسها والمخبوزات والتصميم الداخلي والأثاث العريق، ولا أتحدث هنا عن فخامة بالضرورة، لكن مراعاة الهوية الثقافية قدر المستطاع هو سر التميز. بل إنك تجد بعض المقاهي هناك يمتد عمرها إلى أكثر من قرنين من الزمان، فما الحال ونحن لا يصل عمر المقهى إلى عامه الأول حتى يبهت أو يعرض بعضها للتقبيل وما أكثرها، وكل ذلك نتاج ضعف ثقافة الإتقان (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه). وهناك مسألة غاية في الأهمية قد لا يأبه لها الكثيرون نتيجة الإحباط واليأس من تغير الحال، وهي تعامل معظم مقدمي الخدمة في المقاهي وحتى المطاعم والمحلات بأسلوب فاتر جاف، واستخسار نغمة الترحيب والابتسامة وكأن المرتادين يتسولون البضاعة، ناسين أو متناسين أن المقهى ركن يقصده من يرغب في تغيير جوه النفسي في المقام الأول، فكيف له بذلك والعاملون في معظم المقاهي أنفسهم يفتقرون لتلك الثقافة وفاقد الشيء لا يعطيه، والمقهى لا يتطلب تميزه موسيقى أو أغاني صاخبة تقليداً أعمى للغير وظناً أن هذا ما يطلبه الذواقة. كانت هذه خواطر وحديثاً مع أعز الأصدقاء فأحببت مشاركتكم فيه، طابت أوقاتكم بما تحبون.