اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
والواقع أن القريب ينظر إلى قريبه نظرة تختلف عن النظرة إلى البعداء، فإذا أخلف القريب الظن أو حصل منه تقصير كان ذلك صعب الاحتمال وقاسياً على النفس، وصار بمنزلة الديْن المجحود والحق المغموط، الأمر الذي يثور معه الغضب بشكل يتعذر معه علاجه ويبلغ الحسد فيه مبلغاً يزيد معه غم الحاسد كلما رأى النعمة تظهر على قريبه وقد قال الغزالي: إن الحسد من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب، فهو فرعه والغضب أصل أصله، وقد قيل لأحد الحكماء: ما بال الحسود أطول الناس غماً؟ قال: لأنه يغتم كما يغتم الناس ثم ينفرد بالغم على ما ينال الناس من الخير.
والجوار يعد من البيئات الحاضنة للحسد، إذ ينطبق عليه بعض ما ينطبق على الأقارب من حيث الاشتراك في الجيرة والتساوي فيها، وانفراد أحد المتجاورين بفضيلة ما، وتميزه على جيرانه يكون ذلك سبباً في حسده، علاوة على أن الاشتراك في الجوار يستلزم تفقد الأحوال وتعهد الجيران والوفاء بحقوقهم، وأي تقصير في ذلك يحرك مكامن الغضب الذي يزرع الحقد والبغض وغيرها من الرذائل التي تشكل مكاناً ملائماً ومرتعاً خصباً للحسد وحب الانتقام.
وزمالة المهنة والاشتراك في الصناعة الواحدة من المواطن التي يكثر فيها الحسد حتى أن المتميز في مهنته غالباً ما يجد نفسه من قبل زملاء المهنة مستشرفاً، وبالحسد مستهدفاً إلى الدرجة التي يتطور معها هذا الاستهداف إلى محاولة الإيقاع بالمحسود عن طريق السعاية والوشاية التي يلجأ إليها أهل الحسد والمعاندة والنكد.
وبالطبع فإن الحديث عن الحسد في مفهومه العام وبالتحديد على المستوى الفردي يقودنا إلى إعطاء فكرة عن هذه الرذيلة على مستوى الكيانات الكبيرة والدول إذ إن ذلك يأخذ أبعاداً أخرى، يغلب عليها الطابع العدائي، فالتجاور عادة ما يكون سبباً من أسباب العداوة، نظراً لما ينتج عنه من حسد وتعارض مصالح ومشكلات حدودية، تغذي الخلافات وتثير العداوات، بالإضافة إلى إحياء الثارات وإثارة النزعات الطائفية والعرقية والعقدية، كما هو الحال بالنسبة لكل من الجار الإيراني والتركي، وما يمارسانه من ممارسات عدوانية ضد الأمة العربية، والتجاور البحري يضاعف من هذه العداوة، مضيفاً إليها بعداً آخر يساعد على استمرارها، ويشعل أوارها مع الأخذ في الحسبان أن استثمار الأرض واستعمارها يكتنفه كثير من القيود، أما استعمار الماء والاستثمار فيه فالقيود عليه أخف، ولا يخضع للتطويق والحصار، كما يحصل على اليابسة، وما تهديدات إيران المستمرة في الخليج العربي ومضيق هرمز، وما يحدث حالياً شرق البحر المتوسط إلا أحد الشواهد على أهمية الحدود البحرية، وما يترتب على هذه الأهمية من أطماع تجعل التجاور البحري يجلب الكثير من الخلافات والعداوات انطلاقاً من أهمية البحار العسكرية والاقتصادية، بالإضافة إلى تعقيدات الحدود البحرية ونظام الملاحة في هذه البحار.
وعندما يلتقي حسد الانتماء العرقي مع حسد التجاور، يصبح الحسد مركباً بالنسبة للدول ذات الانتماء القومي الواحد، وعندئذ تكون الممارسات في المعترك والعلاقات على المحك، والحاسد يتجنى على محسوده من خلال المزاعم الباطلة والمطالب غير العادلة التي بسببها يتحول الحسد إلى ما يشبه العداوة، كما هو واضح الآن من حالات الحسد التي يعاني منها المجتمع العربي بسبب الانتماء والجوار، وما يفضي إليه ذلك من مطالب ويسببانه من متاعب، تجعل الحقوق والاستحقاقات تحت الاختبار خاصة تجاه القضايا ذات المسؤولية المشتركة والاهتمام المتبادل مثل قضية فلسطين التي تحولت إلى سوق رائجة للمتاجرات وكيل الاتهامات وكما قال الشاعر:
واعلم بأن أقرب الأقارب
إذا جافاك أخبث العقارب
وعود على بدء فإن الحسد لا يكاد يخلو منه أحد، ولكن تختلف نسبته وكيفية السيطرة عليه من شخص إلى آخر، تبعاً للالتزام الديني والانضباط الخلقي بالنسبة للحاسد وحالة المحسود وموقفه من الفضل الذي يظهر عليه سواء فيما يتعلق بمدى الاستحقاق أو موضوع النعمة المحسود عليها وحجم التأثير المترتب على حصول المحسود على هذه النعمة، وقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاثة لا يكاد يسلم منهن أحد: الطيرة والحسد والظن: قيل فما المخرج منهن يا رسول الله؟ قال: إذا تطيرت فلا ترجع وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق»، وقال الحسن البصري: ليس أحد من خلق الله إلا وقد داخله بعض الحسد، ومن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم لم يتبعه منه شيء.
وطالما أن الحسد يظهر على شكل غم يشعر به شخص بسبب نعمة نالها مستحقها، فإن ثمة أموراً تجري هذا المجرى وهي ليست من الحسد، فالمرء قد يحس بغم إذا ما رأى الخير حصل عليه غير مستحقه لأن الغم في هذه الحالة لم يكن من قبيل الحسد بل يرغب هذا المغتم أن تسير الأمور في مسارها الصحيح، وأن تقع الأشياء في مواقعها، مما يجعله يغتم إذا ما صار الخير عند غير أهله، خوفاً من استخدامه فيما يضر، كما أن الإنسان قد يعتريه شيء من الغم عندما لم يسعفه الحظ بالحصول على خير حصل عليه غيره، دون أن يتمنى زوال الخير من ذلك الغير أو يغتم بسببه، وهو أمر يندرج تحت مفهوم المنافسة الشريفة والغبطة المباحة وليس الحسد المذموم.