اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
بقدر فضل المرء وما يظهر عليه من مظاهر النعمة والفضل تتجه إليه انظار أهل الحسد، وهكذا تسير الأمور في تناسب طردي، فكلما كثر هذا الفضل استفحل الحسد وكثر الحساد، لأن من حسنت شمائله وكثرت فضائله، كثر حساده الذين يتجنون عليه ويرمونه من الخلف، ولسان مقاله وواقع حاله أنه لا يرمى إلا الشجرة المثمرة، وحسبه قول الشاعر:
إن العرانين تلقاها محسدة
ولن ترى للئام الناس حساداً
وقال آخر:
يا كعب من أن ترى من بيت مكرمة
إلا له من بيوت الشر حسادا
والحسد خلق مذموم ومرض في النفس يتولّد عنه غم يلحق بالحاسد بسبب نعمة نالها مستحقها، ثم يتطور هذا الانفعال القبيح وما يصحبه من غم إلى أن يتمنى المصاب به زوال تلك النعمة عن المستحق لها، بحيث يتحول هذا التمني عند البعض إلى ممارسات خبيثة، يترتب عليها أضرار يتعرض لها المحسود بسبب الحاسد الذي غلب عليه هواه، وسيطر عليه حسده، حتى وصل به الأمر إلى معاداة نعم الله التي أنعمها على محسوده عن طريق الإساءة إليه ومحاولة إلحاق الأذى به في سبيل زوال النعمة التي يتمتع بها، وقد قال: الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}، وقال عبدالله بن مسعود: لا تعادوا نعم الله عزَّ وجلَّ، قيل: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، وقال أحد الفلاسفة: إن للنعم أعداء هم الحاسدون يتمنون زوالها عن أهلها، وقال آخر كل الناس أرضيته إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها.
وإن كان الكبر هو أول ذنب أدى إلى معصيته الله في السماء، فإن الحسد هو أول ذنب ترتب عليه معصية الله في الأرض، حيث حسد ابن آدم أخاه حين تُقُبّل منه قربانه فقتله، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: احذروا ثلاثاً، الكبر فإنه حط إبليس من مرتبته، والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة، والحسد فإنه دعا ابن آدم إلى قتل أخيه.
ومن المعروف أن من طبع أهل الحسد إخفاء محاسن من حسدوه، وإظهار مساوئ، من استهدفوه، حتى أن الحاسد إن لم يجد سبيلاً إلى وهن أو سبباً إلى طعن احتال لذلك وفقاً لما ركب عليه طبعه، حريصاً على ذكر مثالب محسوده وتغطية مناقبه، استجابة لما يعانيه من الغم والهم اللذين جعلاه كمن يتجرَّع السم كلما رأى مظاهر النعمة على محسوده مع عجزه عن امتلاك الوسائل التي يستطيع بموجبها التخلص من هذا السم ونقله إلى ضحيته. وقد قال: علي بن أبي طالب ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحسود: غم دائم وهم لازم وقلب هائم وقال: الحسد مطية التعب، وقال أحد المفكرين: الحسود يأكل نفسه كما يأكل الصدأ الحديد، وقال أحدهم، يكفيك من الحاسد أنه يغنم في وقت سرورك.
ومن علامات الحسد أن الحسود يغتاب محسوده إذا غاب، وإن حضر تملقه، وعندما تحصل له مصيبة يشمت به، وهذا السلوك الممقوت ينم عن تلون في الشخصية وانكسار في المعنوية مبعثه سوء الطبع الذي يجعل الحاسد يذل نفسه بالتملّق والغيبة والشماتة في التعامل مع محسوده لتحقيق الهدف من حسده، ويكفي المحسود حيال ذلك أن الحاسد ينطبق عليه قول الشاعر:
وإذا أراد الله نشر فضيلة
طويت أتاح لها لسان حسود
ورذيلة الحسد التي يغذيها الحرص والطمع والجشع والشح عادة ما تلتقي هذه الرذيلة مع رذيلة الكبر في بيئة يسودها الحقد والغل والغضب، وما يجر إليه ذلك من البغي المغلف بغلاف من الختل والغدر والمكيدة، وقد قال الشاعر:
وذي حسد يغتابني حين لا يرى
مكاني ويثني صالحاً حين أسمع
ويضحك في وجهي إذا ما لقيته
ويهمزني بالغيب سراً ويلسع
والبغض يعتبر من الدواعي الداعية إلى الحسد، حيث إنه يثير في نفس الحاسد بواعث هذا الشعور بسبب ما يظهر على المحسود من فضيلة تذكر أو منقبة تشكر، الأمر الذي يؤدي إلى امتزاج البغض مع الحسد بصورة تجعل من الصعب علاج هذه الحالة، نظراً لأن الحسد عندما يخامره عداوة تعجز الحيلة عن علاجه، والتعامل معه ويصبح من الحالات المستعصية، وكما قال الشاعر:
كل العداوات قد ترجى إماتتها
إلا عداوة من عاداك من حسد
وهناك مَنْ يذهب به خبث طبعه وحب ذاته مذهباً يصل به إلى كره ما يظهر على غيره من الفضل أو يتمتع به من فضيلة في أي مجال من مجالات الحياة نتيجة لعجزه عن مجاراة صاحب الفضل وبلوغ ما بلغه، متحولاً هذا العجز إلى شكل من أشكال الحسد المقرون بنوع من أنواع المنافسة التي حولها العجز إلى حسد، وهذا النوع من الحسد هو أقل أنواعه ضرراً لأنه مقصور على حسد الأدنى للأعلى.
ومن أخطر الدواعي الداعية إلى الحسد أن يكون الحاسد من النوع الذي يتحكم فيه الشح المطاع، مزيناً له هذا الخلق الذميم الشح بالخير والبخل بالنعم إلى الحد الذي يجعله يعترض على قضاء الله وقدره بما يظهر عليه من السخط على النعم التي يتفضل بها الله على خلقه بدافع من الحسد المركب عليه طبعه والمتأصل في نفسه وكما قال الشاعر:
لا تحسدن على نعماه ذا نعم
أن الحسود على التقدير غضبان
وللحسد مواطن ينمو ويزدهر فيها، ومن هذه المواطن صلة القرابة لأن الأقارب الذين ينتمون إلى نسب واحد يتساوون فيه عندما يتفرّد أحدهم بفضله أو تظهر عليه نعمة يحسده نظيره في النسب، كما أن الانتماء إلى النسب الواحد والتعاقل في العصبة يعني المساعدة والمؤازرة التي تفرضها صلة الرحم ووشائج القربى وفي حالة الإخلال بهذه الحقوق والتقصير في القيام بها، يُنظر إلى ذلك بالتنكر لهذه القرابة وغمط حقوقها، مما يثير ثائرة الغضب والحقد، وما يفضي إليه هذا الأمر من تحاسد وتنافر، وقد قيل لأحدهم: ما بال فلان يبغضك؟ قال: لأنه شقيقي في النسب وجاري في البلد وشريكي في الصناعة.
وأبلغ شاهد على حسد الأقارب يظهر في قصة يوسف وإخوته، تلك القصة التي بقدر ما أماطت اللثام عن حسد المؤمن لأخيه، وأن النفس أمَّارة بالسوء، بقدر ما كشفت عن فضائل الصبر والحلم والتسامح والعفو والرحمة والتعامل مع المواقف بحكمة متناهية، مما يستدعي التأسي بأخلاق الأنبياء والاقتداء بهم للحد من تأثير الدواعي الداعية إلى الحسد بين الأقارب والسيطرة على تداعياته، وما يمكن أن يقود إليه من المشاجرات والعداوات، وقد سُئل الإمام الحسن: أيحسد المؤمن؟ قال: أنسيتم أخوة يوسف؟