بكري عساس
عرفتُ مكة رضيعًا وطفلاً وفتى وشابًّا ورجلاً وكهلاً.
عشتُ عقودًا من تاريخها فخبرتُ قديمها، وعرفتُ حديثها.
أدركت أزقتها وحواريها وبيوتها الشعبية، كما عاصرت طرقها السريعة وأبراجها وأسواقها التجارية الضخمة، ومجمعاتها السكنية الكبيرة، ومشاريعها العملاقة.
صليتُ في الحرم يوم كانت تُقام فيه الصلاة فلا تجد إلا أعدادًا محدودة، وصفوفًا حول الكعبة، لا تزيد على أصابع اليد الواحدة، وتطوف فيه بالبيت فتقبِّل الحجر الأسود بكل سهولة ويُسر. وصليت فيه وهو كظيظ من الزحام، والركن اليماني وزمزم والمقام، فضلاً عن الحجر الأسود والملتزم، بعيدة عن المتناول. وفوق هذا كله عايشتُ مكة - بفضل الله وكرمه - طالبًا للعلم، ومتسببًا، ومطوفًا ومرشدًا للحجاج، وسائق مركبة باص (الزيتوني) لنقل الحجاج، وتاجرًا، وأستاذًا جامعيًّا، ومسؤولاً على المرتبة الممتازة.
وعلى كل هذه التقلبات السريعة، والأحوال المختلفة، كانت مكة المكرمة البلد الحرام ومهبط الوحي والمكان الذي وُلد فيه سيد البشر نبينا محمد - صلي الله عليه وسلم - ما زالت في قلبي هي كما هي بطهرها، وعبقها، وقدسيتها، وجمالها الفرد الذي لا تشبهها فيه مدينة أخرى على وجه الأرض. أحببتُ مكة، وارتبطت بها وجدانيًّا وعاطفيًّا وروحيًّا وجسديًّا.
إنها مكة (النبوة).. وضع أساس بيتها آدم عليه السلام، ثم رفع قواعده إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، ثم تتابع الأنبياء، فما من نبي بعد إبراهيم إلا وحج البيت (رواه البيهقي في السنن)، ثم حطم الأصنام فيها خاتم الأنبياء والمرسلين، أشرف خلق الله أجمعين، سيدنا محمد - صلى الله عليه وعلى آلة وصحبه أجمعين -.
إنها مكة (الوحي) على (حرائها) تنزَّل جبريل عليه السلام، يحمل للبشرية نور الهداية الربانية؛ فأفاقت الدنيا على النبأ العظيم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ}. (العلق: 1-2)
ولذلك جرى قلمي كثيرًا بالكتابة عن هذه المدينة المقدسة، البلد الحرام، أم القرى، كلما وجدت مناسبة، أو حدث حادث، أو خفق في القلب إحساس وحنين.
قال الشاعر المكي محمد أمين كتبي عن مكة المكرمة:
بلادٌ حباها الله أمنًا وكعبة
يصلي إليها الناس فرضًا محتما
مقام خليل الله فيها محجبا
ومشرب إسماعيل من بئر زمزما
ومَن أمَّها مِن كل قطر وبلدة
ومرَّ على الميقات لبَّي وأحرما