د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
تحمل الثقافة رِكازَ العمق الوطني الممتد من خلال الذاكرة التي تُستعادُ فتعودُ كلما أضاءت! فتستحق الثقافة بمفهومها الشامل أن تُحمل فوق الهوادج الفاخرة، حيث يطرب الذهن للقديم منها وحصاد السنين وعبقها ويتلذذ بتاريخها كما تلذُّ الأعين بالمنتج الحديث زهوا ويقينا بسنّة التغيير؛ ومع ذلك الخصب المتعدد للثقافات هنالك اليوم حضور جديد مختلف للثقافة في بلادنا في مواكبها الجديدة، فاحتضان البدايات المنزوية هو حتماً حُزمْ من الضوء تشرق فتمتزج فتقترب؛ حيث بدايات المسير في المشهد الثقافي الوطني؛ ومن اللافت اليوم أفول ملحوظ لبعض مؤسسات الثقافة غير الربحية في بلادنا التي تأسست منذ عقود ْربما لافتقاد الدعم وتأرجح المرجعيات حقبة من الزمن؛ وتواري الاحتفاء بالمنجز الثقافي وغياب الرؤية الثقافية الموجهة للقطاع الثقافي في عموم دوائره، وافتقاد وجود مرجعية تقويمية رسمية للمنجز الثقافي، وانقطاع التواصل المثمر بين المنجز الثقافي والجمهور إلا لُماماً !
وقبل حلول باقات الرؤية الوطنية العملاقة 2030 لم يكن الفضاء الثقافي داعماً للإبداع، مما نجم عنه صعوبات تترى واجهتْ المؤسسات الثقافية غير الربحية من أجل النهوض بالحراك الثقافي ويُحمدُ لها ذلك، ولما أن وزارة الثقافة تنشد في حراكها كل جميل ومجزٍ؛ فإن الخيار الاستراتيجي الأجدى هو دعم تلك المؤسسات ومبادراتها الثقافية القائمة والمخطط لها ووضع الأطر التنظيمية لها وتوجيهها وتقويم منجزاتها حاليا وفيما مضى من زمنها، تتصدر تلك المؤسسات الأندية الأدبية والثقافية التي تحتاج إلى بانوراما تشغيلية مختلفة وتظاهرة وطنية سنوية تتنافس فيها الإبداعات الثقافية، ويلتقي فيها المبدعون والمفكرون؛ فتلك المؤسسات إرث وطني يمكن استثماره، ولا يخفى على المتخصصين في التخطيط النهضوي الحضاري أن تأسيس كيانات جديدة في ذات موجودة أصلاً ربما يفتقد ذلك التأسيس لمقومات الوجود والاستمرار فقد تولد بلا تاريخ أو هوية، فالمؤسسات الثقافية القائمة هي الركيزة التي يمكن أن تستند عليها وزارة الثقافة في إدارة دفة الهيئات الثقافية المنشأة حديثا التي قد تواجهها ندرة المتخصصين وندرة الخبرات، وهي متوافرة في المؤسسات الثقافية غير الربحية العريقة، فالتأسيس على التراكمات الناجحة المحلية السابقة والحالية يجلب التفاؤل - بإذن الله - بمستقبل مشرق للثقافة السعودية.
وبطبيعة الحال تحتاج تلك المؤسسات الثقافية غير الربحية إلى نظرة تطوير شاملة في جل نماذج عملها وفي عموم فعاليتها، ويلزمها حضور تقويمي دقيق مستقل (حوكمة)؛ وبلادنا اليوم تتجه لصناعة ثقافة مستقبل داعمة لجوانب التنمية البشرية، لذلك فالمناخ الذي صنعته الرؤية السعودية المحفزة صديق وفي جديد، وفي واقعنا اليوم نلتقط الإيجابيات في منصات الثقافات القائمة؛ ولكننا نبحث أيضاً عمن يكفل لنا وفرة ثقافية محفزة للتفكر الإبداعي في كل فن؛ وأحسبهم كثيراً تحتشد بهم الزوايا العامة والخاصة ويحتاجون إلى انتظام صفوفهم من جديد وتفجير الإمكانات العقلية السعودية ذات السياقات الثقافية لتتناسب مع التحولات، ولتكون مؤثرة وذات نسيج مقنع، ويكون الاهتمام الأعلى هو تنمية ثقافة الابتكار الثقافي في كل الأصناف المنتمية له تتصدرها الفنون والآداب ذات الجماليات الواضحة وأن تهتم المؤسسات الثقافية بصناعة الشغف من خلال منتجات الفنون والآداب، وقد يُفضي ذلك إلى تنصيب الفنون والآداب حكماً على جودة الحياة؛ ويسعدنا ذلك الالتفات الجدير للاحتراف كمطلب لمن يقف على إدارة فنون الثقافة لكونها أصداء حية لحياة الناس، فكل حضور ثقافي تُشرَعُ من خلاله نافذة ضوء ! وتلك حزم من دروب شتى متاحة لوزارة الثقافة عندما تكون صديقة لمؤسساتنا الوطنية الثقافية غير الربحية لتلبي احتياجا أزلياً لحياة العقول في مجتمعاتنا السعودية المتحضرة؛ ولتكون صناعة الفنون الثقافية ممارسة تلقائية تؤسس لبناء الرأي السليم؛ فالثقافة وإن كانت مكتسبات فردية فهي دعائم مجتمعية لتحفيز الفكر وذخائر مفضلة بدرجة عالية في مراحل الزمن المختلفة إذا ما صفت مواردها.
ولعل معالي وزير الثقافة الذي راد فضاءاتها يشعلُ الأندية الأدبية الثقافية باحتضان خاص، فالتناسخ الواضح حالياً في أنشطة الأندية الأدبية لا يخدم الثقافة التي يُراد منها الانسجام مع التحولات وحيازة أكبر قدر من الثقافات المتنوعة؛ كما أن استثمار حراك جمعيات الثقافة والفنون في استزراع جذور ثقافية جديدة يمكن أن ينبت الزرع!