أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
قال صاحبي: شاهدت ذات يوم حلقةً يوتيوبيَّةً لقُمُّص مَشْلُوح يتحدَّث خلالها عن أخطاء نحويَّة في «القرآن الكريم»!
- ما شاء الله، يا له من عبقري! الأصل المنطقيُّ أنَّ لغة «القرآن» حُجَّةٌ على القواعد التي قُعِّدت بعده، بقرابة مئتي سنة، وبناءً على لغة الشِّعر وكلام الأعراب، لا تلك القواعد حُجَّة عليه. لكن ما معنى «مَشْلُوح»؟
- أي متبرَّأ منه من الكنيسة. يعني: مخلوع!
- عرفتُ الرجل. ولا يعنينا هنا غَرَضه، وجهاده في سبيل ذلك الغَرَض، بكلِّ ما أوتي من حيلة، أو ربما ممَّا «شُبِّه إليه» و»تَشابَه عليه»؛ فذلك شأنٌ قديم، مألوفٌ من مختلف أبطال المصارعات الحُرَّة الدِّينيَّة.
- حلوة المصارعات الحُرَّة الدِّينيَّة!
- غير أنَّ الرجل يبدو- على المستوى المعرفيِّ- نموذجًا ثقافيًّا بارزًا على عقليَّةٍ متعصِّبة، توظِّف جهلها إديولوجيًّا، وباسم العِلْم، لتشويه الخصوم. والقُمُّص المحترم يتمتَّع إلى ذلك- ولا حسد!- بجهلٍ واسعٍ وعميقٍ باللغة العربيَّة، مع بُعدٍ شاسعٍ عن فهم التراث العربي، والبلاغة العربيَّة. ومع ذلك تراه يناطح من هذا الباب أيضًا لمخادعة الناس، باستعراض المراجع التراثيَّة والتصدِّي لاستقراء النصوص ومقارنتها وتفسيرها. مُقْتَصًّا النقاط، التي لا يملُّ من اقتناصها، من سياقاتها، من هنا وهناك، ليقوم بتلفيقها، والنفخ فيها، والإضافة إليها، والتأوُّل منها، ثمَّ ترديدها صباح مساء. وتلك المادَّة كانت هي المادَّة الرئيسة في ذلك الفِلْم السخيف القصير، الذي تُرجِم باللهجة المِصْريَّة، وأثار ردود فعلٍ واسعة، وسُفِكت بسببه دماء، وأُخربت مصالح، في سبتمبر 2012. والحقُّ أن ذلك الفِلْم لا يمثِّل، من الناحية العلميَّة والتاريخيَّة، إلَّا مادَّةً زائفةً لبثِّ الكراهية.
- بعيدًا عن المزايدات الدِّينيَّة- معروفة الأهداف، وليست بالجديدة- فإنَّ لغة «القرآن» هي الأصل الذي ينبغي أن يقاس عليه النحو العربي، لا العكس. وإلَّا بتنا في منطقٍ مقلوب. وإنَّما بقاء تلك الظواهر اللغويَّة في «القرآن» شاهدٌ إضافيٌّ على أصالته، وأنَّه لم يخضع للتغيير، الذي كان يُجرِيه بعض الرواة على غيره من النصوص، بما فيها الشِّعر، كي تتَّفق مع ذوق الراوي، أو مع ما يراه صوابًا. حتى قال الشاعر المخضرم (تميم بن أُبيِّ بن مقبل العجلاني): «إني لأرسل البيوت عُوجًا فتأتي الرواة بها قد أقامتها!»
- القضيَّة هنا، إذن، لم تَعُد دِينًا مقابل دِين، لكنها قضيَّة منطقٍ مقابل منطق. ومتى كان هؤلاء المبرمَجون دِينيًّا يحفلون بالعقل والمنطق؟! فهَبْ أنَّ «القرآن» كان من عند محمَّد، وأنَّ محمَّدًا- لسبب غير معروف- كان يعاني مشكلةً في معرفة عمل (إنَّ)، مثلًا، في الجملة الإسميَّة؛ فهو لا يفقه أنها تنصب المبتدأ ويسمَّى اسمها وترفع الخبر ويسمَّى خبرها، كما قعَّد لنا ذلك عمُّنا الفارسي (سيبويه) وغيره.. هَبْ أنَّه لا يعرف ذلك كله، لا نظريًّا ولا تطبيقيًّا؛ ولهذا بقي يخطئ، فمرَّة يرفع الاسم ومرَّة ينصبه، هكذا خبط عشواء؛ فكيف سكتَ مَن حوله عن هذا التخليط النحوي؟
- وفيهم مِن العرب العاربة والعرب المستعربة، مسلمين وكفَّارًا!
- لم يُنكِروا عليه هذا الغلط الشنيع قط، حتى جاء رجلٌ لا يعرف العربيَّة أصلًا، وبعد 14 قرنًا ليُنكِر ذلك!
- هو في الواقع، وللإنصاف، يستدلَّ بهذا على أن الله لا يمكن أن يخطئ في اللغة العربيَّة، لكنَّ العربيَّ الهاشميَّ القرشيَّ هو من كان يخطئ في النحو العربي. فإذن «القرآن» ليس من عند «ربُّنا»، كما يستنتج؟!
- يا له من مؤمن! حُجَّةٌ لا يمكن أن تَسُوْغ في ذهنٍ، إنْ كان صاحبه عاقلًا طبعًا، لكنه المِراء. وحين تجتمع جهالَتا المِراء والمعرفة، فحدِّث ولا حرج! بل قل: كيف سكتَ مَن كان مِن العرب يبحث عن أدنَى شُبهةٍ للطعن على محمَّد، ولا سيما في النصِّ القرآني؟! فلقد قالوا: إنَّما هو شاعر، وقالوا: كاهن، وقالوا: ساحر، وقالوا: مفترٍ، ولم يقولوا: عَيِيٌّ، أو أعجميٌّ، أو لا يُحسِن العربيَّة!
- حدثَ ذلك السكوت؛ لأنه لم يتجرَّأ أحدٌ على الافتضاح افتضاحَ القُمُّص «الفِتِك»!
- لأنه- مهما كان في المرء من عنادٍ ومِراءٍ وخصومةٍ- لا بُدَّ أن يحترم نفسه، وأن يراعي عقله، وأن لا يظهر إلَّا بذكاءٍ حِجاجيٍّ مقبول، يعصمه من السقوط في مهاوٍ تَذهب بمصداقيَّته أمام جماهيره والمريدين، وبخاصَّة سقطات تتعلق باللغة وتاريخها. ثمَّ ماذا لديك من اكتشافات الرجل؟!
- كان- ولا عيب عليه في جهله، لولا اتِّخاذه وسيلة إيضاحٍ واستدلال- يُصِرُّ على عرض الآيات القرآنيَّة التي ينتقدها مكتوبةً بالخط العريض على الشاشة، هكذا: «إنْ هذان لساحران»، فيقرأها: «إنَّ هذان لساحران»، صائحًا: «إزَّااااااي؟»! ثمَّ يصيح ثانية: «إزَّاي ربُّنا يغلط في النحو، فيقول، مسلن: «لا ينال عهدي الظالمين»؟- إشارة إلى الآية: «وإِذِ ابْتَلَى? إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا، قَالَ ومِن ذُرِّيَّتِي، قَالَ: لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»- إزَّااااااي؟ المفروض أن يقول: «لا ينال عهدي الظالمون»؛ لأن «الظالمون» فاعل.. مش كده والَّا إيه؟!... إزَّاي ربُّنا يغلط في النحو؟ مش معؤول! إزن، هذا القرآن مش من تأليف ربُّنا»!
- حلوة «تأليف ربُّنا»! لقد أحسنوا، بشَلْحِه، من أجلهم هم؛ لأن حماقته تبدو صارخة حقًّا. يعني: إذا كان من تأليف «ربُّنا»، فمن غير المعقول أن تكون فيه أخطاء نحويَّة، أمَّا إذا كان من تأليف محمَّد، فجائزٌ أن تقع فيه أخطاء نحويَّة؟!
- هكذا يقول «أُدْس أبونا الأُمُّص»!
- أيُّ قداسة أبقاها؟! هل العربيَّة لغة «ربّنا»، أم لُغة العرب؟! وهل القرآن بلُغة العرب، أم بلغة «ربّنا»، حسب قوله؟ إن الاحتجاج هنا مغلوط. مؤدَّاه أن العرب لا يعرفون لغتهم، وأنَّ العربيَّة لغة الله، سبحانه، لا يُتقنها حقَّ إتقانها إلَّا هو، فإذا لحَن العربيُّ، فقد خالف النموذج الإلهي الصحيح. وهذا لا يقول به عاقل. العربيَّة لغة كلُغات البشر عمومًا نشأت، وترقَّت، وتطوَّرت، حتى بلغت طورًا جاء بلسانه «القرآن». فهي لغة الجماعة البشريَّة، التي تسمَّى «العَرَب»، والتي كانت في القرن السادس الميلادي تعيش في جزيرة العَرَب.
- وبذا فإن عقل قُمُّصنا المحترم يقول له: إن الخطأ في النحو، دليل على أن الكلام ليس بكلام ربِّنا، بل كلام عربيٍّ قرشيٍّ، لا يعرف لغته! كأنَّ من قالوا بأن اللغة توقيفيَّة مصيبون، بحسب هؤلاء القمامصة!
- بل قالوا: إنها لغة آدم، ولغة أهل الجنَّة، على حين قال قائلهم: إن الفارسية لغة أهل النار! هو لا يقصد ذلك، لكنها المغالطات. وفي كلِّ غالٍ حُمْق. والواقع أن «القرآن» نزل بلسانٍ عربيٍّ، والعربيَّة لغة العرب، لا لغة السماء، فهي- من حيث هي- بضاعة اجتماعية بشريَّة، كسائر اللغات، وما أُرسل من رسولٍ إلَّا بلسان قومه ليبيِّن لهم. وما كان الله ليُنزل نحوًا جديدًا، ولا لغة جديدة، ولا تصحيحًا للسان العرب، رَفَعَ أو نَصَبَ أو جَرَّ. بل ما كان ليحذو حذو قواعد (سيبويه)، بل حذو لسان العرب كما نطقوه، وقواعد لسانهم كما كان في المتداول إبَّان التنزيل، يومَ كان العربيُّ يتنفَّس لغته؛ فعليه أن يقول وعلى الدارسين أن يُعرِبوا ويُعلِّلوا. ليس بنحويٍّ، لكنَّه لا ينطق إلَّا عن أعراف العرب في تصريف لغتهم. لا نقول: إنه لا يخطئ، فحسب، بل ما كان يستطيع أن يخطئ أصلًا، وإنْ كان مجنونًا؛ فالمجنون لا يخطئ في البناء اللغوي، بل في بناء معانيه. ولئن هو أخطأ في بناء اللغة، فالآذان لا تخطئ، والأذواق لا تتقبَّل، والخصوم بالمرصاد. ولقد كانت العرب تستقبح اللحن، وتَعُدُّه منقصةً في الشرف؛ فكيف فات هذا على القوم، مسلمين وغير مسلمين، فلا هم أنكروا، ولا استدركوا، ولا حرَّكوا ساكنًا؟! «حَديثُ خُرافَةٍ يا أُمَّ عَمْرِو».
** **
(العضو السابق بمجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود)