عبد العزيز الصقعبي
عرفت أني وهم منذ سنوات طويلة، ولكن هذا لم يمنع أن يتخيلني البعض وبالذات من يقف على خشبة المسرح ليؤدي دوراً دون أن يشعر بالجمهور الذي يجلس على مقاعد ويتابعه، هذا يجعل الممثل يندمج بالدور ويتقمصه، ويغادر الزمان والمكان إلى أزمنة متخلية فرضها العمل المسرحي، وبوجودي أنقل الجميع إلى حياة موازية جميلة، وأنا فعلا غير المرئي، فالمتفرج يرى غالباً ثلاثة جدران على يمين ويسار ووسط خشبة المسرح في الخلف، ولكن في الأمام ومقابل الجمهور ليس هناك إلا الستار، والستارة هي من تمثلني دائماً، وهي الواقع غير الافتراضي، أعين الجمهور تكون معلقة عليها، في انتظار فتحها، وكذلك أعين الممثلين إن كان العرض مسرحياً أو الفرقة الموسيقية إذا كان حفلا غنائياً، معلقة أيضاً على الستار، بتوجس، فهم لا يعرفون من حضر وهل القاعة اكتظت بالحضور، وبوجودي سيكون هنالك أشبه بالبث ينطلق من خشبة المسرح ويتلقفه كل من يوجد بالقاعة، إرسال، واستقبال.
أعتقد هذا معروف لدى الجميع، ولا يحتاج إلى شرح مني قد لا يضيف شيئاً، ولكن أنا والذي يُطلق علي مسمى الحائط الرابع، بدأت أفقد الهيبة، بل لم يصبح لي شأن بالذات في المسرح، منذ أن بدأ بريخت بمعوله المسرحي بكسري، بعد ذلك ألغيت الستارة، وبمناسبة الستارة، أتذكر صورة لكوكب الشرق أم كلثوم وهي تطل من خلف الستار لتشاهد الجمهور، أشبه بامرأة خلف الباب، تنظر دون أن يبدو منها إلا عين واحدة وجزء من الوجه لمن خلف الباب، في ذلك الوقت كان الحائط الرابع وتمثله الستارة له هيبته، فحين تفتح الستار وتطل أم كلثوم تغني كما تُقرر هي لا كما يقرر الجمهور، وأحياناً هي أو بعض الفنانين، بالطبع كبار الفنانين، يتكرمون على ذلك الجمهور ويعيدون مقطعاً أو يرددون كوبليهاً، ولكن مع بقاء الحائط الرابع، بل يُذكر أن عبد الحليم حافظ في إحدى حفلاته وقبل أن يبدأ طلب من الجمهور أن يستمتع بالسماع، بمعنى لا يتجاوز الحائط الرابع ويفسد على المطرب اندماجه وهو يغني.
يبدو لي أنني في هذا الزمن أصبحت باهتاً في كثير من المسارح، فأغلب الأعمال المسرحية، ووفق الجنوح إلى المسرح الفقير أو التقشف في الديكور والإكسسوارات، أصبحت أغلب قاعات المسرح لا تحتاج إلى أن يوضع ستار يفصلها عن الجمهور، وليس الأمر فقط يقف عند هذا الحد بل بدأ بعض الممثلين في بعض المسرحيات باستجداء الجمهور الضحك، أو التصفيق، وكذلك بعض الفنانين في بعض الحفلات الغنائية، الذين يحبون أن يشاركهم الجمهور الغناء والرقص، بل إن في كثير من الحفلات الغنائية في العالم، الجميع يرقص وهو يستمع، أي أن جميع الجدران تم تحطيمها، ليندمج أداء المغني على خشبة المسرح بحركة المستمع والراقص الذي تحركه النغمة أكثر من الكلمات، بالطبع ما يريحني أن هنالك عروضاً للأوبرا وفرق الأوركسترا الموسيقية، التي أكون حاضراً فيها كحائط رابع يفصل بين المبدع والمتلقي، وأنا حين أقول المبدع أقصد به الممثل الذي يقوم بدوره باقتدار أو مغني الأوبرا، أو عازف الآلة الموسيقية بكل أنواعها.
الأمر الذي اكتشفته أن وجودي كحائط رابع لا يتوقف على خشبة المسرح، بل أنا موجود في كل مكان، وبالذات في الأماكن الرسمية، فأكون حاضراً بين المسؤول وبقية الحضور، لا أحد يستطيع أن يكسرني، وهناك أناس اتسموا بالمهابة، وبالطبع كلمة مهابة، ومرادفاتها تمثلني كحائط، ليس فقط رابعاً بل أكثر من ذلك، حيث إن من يتسم بالمهابة والاحترام والسمو والرزانة والعظمة، يمتلكون ذلك الحائط الذي يجعل الآخرين لا يتجاوزون ذلك الحائط الوهمي، إلا وفق خطوات محددة ومحسوبة، إذا لن يكون هنالك تجاوز مطلقاً، إنني وإن كنت وهماً ولكن أنا موجود، وأعتقد وجودي مهم لكل الناس، في كل التعاملات الحياتية، ووفق درجات، فبصفتي حائطاً وهمياً، من المفترض أن يكون هنالك حد للمزح « والميانة» بين الأصدقاء كمثال، حتى لا يتطور ذلك إلى خلاف، وهنا أعتذر عن التمادي في الحديث عن تطوير الذات والسلوكيات الإنسانية، ودعوني أبقى حائطاً رابعاً، قد يملكه كل فرد رجل أو امرأة، وقد يحسن استغلاله ويكون مبدعاً في حياته كممثل أو عازف على خشبة مسرح، أو أي إنسان يهمه أن تكون له قيمة ومهابة، وقد يفقد هيبته ويكسر ذلك الحائط، عند أي نشاز أو خروج عن النص.