د. إبراهيم بن محمد الشتوي
يرى بعض الدارسين المعاصرين أن شعر الحكمة ليس من الشعر في شيء، وأنه لا يعدو أن يكون نظماً يشبه في ذلك ما يُسمى بنظم العلوم، وهي التي يعمد فيها أحد العلماء إلى صياغة بعض قواعد أحد العلوم شعراً، وتخلو من كل سمة شعرية، ومن هنا فإنه لا يعد شعر الحكمة شعراً، ولا يرى فضيلة لأبيات زهير أو من جاء بعده من الشعراء ممن أكثروا من طرق الحكمة في أشعارهم كأبي تمام والمتنبي.
وحين نعود إلى النقاد القدماء نجدهم قد اعتبروا الحكمة من الفنون الشعرية التي يتميز بها الشعراء عن سواهم، بل إن الأصمعي حين سُئل عن أشعر الشعراء عد منهم الذي يقول: «ومن...ومن...ومن»، يقصد أبيات الحكمة في آخر معلقة زهير.
وهذا لا يدل على أهمية شعر الحكمة وحسب، بل يدل على أنه أهم ما علق في ذهن الأصمعي من شعر زهير، وهو ما يدل على مكانته العالية في ميزان الأصمعي الشعري.
ولو تأملنا شعر الحكمة لوجدناه في الغالب يتسم بالمباشرة، والوضوح، وهو أيضاً لا يميل إلى الصور والمجازات، وإن كنا قد نجد منه شيئاً من ذلك كما في بيت ابن زيدون الشهير:
هل الرياح بنجم الأرض عاصفة
أم الكسوف لغير الشمس والقمر
وبعيداً عن صحة هذه الدعوى التي يدعيها ابن زيدون في بيته هذا، فإن البلاغيين القدماء قد درجوا على اعتبار هذا البيت من شواهد التشبيه الضمني الذي يفيد أنه يشبه به نفسه، وهذا يعني أنه -الشاعر- يستنبط معنى أنه إذا كان الكسوف ليس لغير الشمس والقمر، وقد كسف فهو إذاً مثلهما.
بيد أن هذه الحالة الفريدة التي يتسم بها هذا البيت لا تفتح الباب لجميع أبيات شعر الحكمة مما تختلف عنه في طريقة التكوين، وهذا يدفعنا إلى طرح السؤال عن شعرية شعر الحكمة، وهل كان اعتبار القدماء للحكمة فناً من فنون القول كافياً في اعتباره كذلك، أم أن القول فيه يخضع للتطور في نظرية الأدب.
يمكن القول: إن شعر الحكمة من الشعر الموضوعي الذي يغلب فيه العقل والمنطق على الشعر الذاتي الذي يغلب فيه الوجدان، وبهذا فهو يندرج في الفن كما يندرج الشعر الملحمي والمسرحي عند اليونان، وليس غلبة العقل عليه مما يجعله خارج إطار الشعر.
بيد أن اللافت للانتباه هو أن الشعر الشعبي في العصر الحديث لا يقل اهتماماً بشعر الحكمة عن الشعر الفصيح، ما يمكن أن يفيد بأصالة هذا النوع من الشعر في الفن في المعرفة الإنسانية باختلاف الأزمنة، وهو ما يدعو إلى النظر والبحث عما يمكن أن يكون السبب وراء هذه العناية.
يمثل شعر الحكمة نوعاً من صياغة قواعد عامة للحياة يستفيدها من يقرأ هذا الشعر، وهو في صورة من الصور يعكس نوعاً من التجارب، والخبرات، قد يكون أمراً ممكناً حين يكون الشاعر في موقع زهير الذي سئم تكاليف الحياة بعد أن عاش ثمانين حولاً وحنكته التجارب، لكن حين يكون الشاعر شاباً مثل ابن العبد، فإن القول بأن شعر الحكمة استخلاص لتجارب وخبرات الحياة قول فيه نظر لأن الشاعر لا يمكن أن يكون قد عاش المدة الكافية للمرور بهذه التجارب ناهيك عن استخلاص العبر منها، وهنا يأتي السؤال عن مصدر هذه الحكمة، أيمكن أن تكون نوعاً من تكرار القول الذي قاله غيره، وبهذا فليس له إلا الصياغة، وتطبق عليه قواعد السرقات الشعرية التي فصلها القدماء من قبل كقولهم: «الفضل للسابك لا للسابق». ويبقى السؤال عن شعرية شعر الحكمة في ذاته بغض النظر عن عمر قائله.
شعر الحكمة -كما قلت من قبل- يحتوي على قواعد للحياة، وهو يفيد استخلاص التجارب، وقد يبدو من ظاهره العموم، ولكنه لا يعني أن مصدره (الحكمة) العموم، فقد يكون بناء على تجربة يسيرة مر بها الشاعر، فاستخلص منها حكماً عاماً بناء على منهج الاستنباط، وتعميم موقفه الذاتي على جميع أنماط الحياة المشابهة له. وهذه هي «قضية الشعر» حيث إن الشاعر يسبغ ذاته على الوجود فيصوره بالصورة التي يراه أو يحسه به، وقد أحس الشاعر موقفه الذاتي الذي مر به وجعله عاماً في كل ما يشبهه من مواقف، وهذا نوع من الفن ووظيفة من وظائف الشعر.
بيد أن هذا ليس هو الملمح الوحيد في شعرية فن الحكمة، وذلك أنه يعكس رؤية الشاعر للعالم حوله، وإذا كنا قد قلنا من قبل إن مصدره التجارب التي يمر بها الإنسان، بوصفه نوعاً من الدروس المستلهمة، فإنه (المصدر) قد يكون قدرة الشاعر على الإحساس بما حوله والتنبؤ بمآل الأمور، وهو الملمح الذي احتفلت به الحداثة حين وصفت الشاعر ب»النبي»، ومن قبلهم أبو العلاء فيما ينسب إليه من القول: «إن أبا تمام والمتنبي حكيمان»، أي نبيان على المعنى الذي جاءت عليه «الحكمة» في القرآن.
فهو (شعر الحكمة) يدل على القوة العقلية التي من خلالها يستطيع الشاعر استكناه الغيب، ومعرفة مصائر الأمور، وهي معرفة لا صلة لها بالماضي وإنما كالقدرة على استنبطانها، وتصويرها على حقيقتها وإدراك كنهها، أو تصورها على صورة على غير ما تبدو عليه في الظاهر بل كما تصورها قوة المخيلة، فالخيال الذي يمنح صوراً للأشياء جديدة، تختلف عما تبدو عليه، يمنحه صورة أيضاً عما سيحدث في قابل الأيام وتكون عليه أمورها، وهو موضوع شعر الحكمة.