محمد جبر الحربي
يلفتُ أعينَنا وعقولَنا وقلوبَنا بألمٍ رحيلُ الشاعرِ المبدع، والمثقفِ المختلف، والمذيعِ المميز عبدالله عبدالرحمن الزيد - تغمده الرحمن بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جناته- إلى ظاهرة سلبية خطيرة، وهي ظاهرة تتكرر مع كل رحيل للعقول الجميلة، والمواهب النادرة، من المبدعين والمبدعات، في الشعر، وغيره من الفنون والآداب.
إنها ظاهرة التجاهل والإهمال، وعدم المبالاة، التي تحيط بالمبدع، وأخص هنا الشاعر السعودي، في حياته، إلى أن يموت وحيداً، معزولاً، وقد هدَّهُ التعب والمرض والفقر، وقد كان طوال حياته شعلةَ نشاطٍ وعطاءٍ للوطنِ، ومصدراً للإلهام والإبداع.
لكنه ظل كذلك بعيداً عن عينِ، ورعاية الجهات المعنية في الدولة، وهي كثيرة، وعلى رأسها وزارة الإعلام، ووزارة الثقافة، وهذا التيه والتخبط بينهما، وهذا الانشغال بكل شيءٍ إلا بعمود الثقافةِ ومحركها ألا وهو المبدع، وما يعنينا في هذا التأبين هو الشاعر، والإعلامي..
لقد قامت فكرة الرؤية 2030، على القوة الناعمة Soft Power، والتي تضم تحت جناحيها الثقافة والآداب والفنون والسياحة والتراث الحضاري، وهي تهدف إلى الحفاظ على الهوية وترسيخها.
وعمودُ هذه القوة هو المبدع بدءاً وانتهاءً، فعمودُ القوةِ الإنسان الذي أوجد البنيان، لا البنيان..
وهو هنا المبدع الظاهرة، لا التمظهر والزخرفة.
إن تكريم المبدع بعد وفاته -هذا إذا ما حصل- وهو لم يكرم في حياته، ولم يحصل على العناية بهِ، وبصحته، ولا العناية بإبداعهِ: نشرهِ وتوصيلهِ إلى العالم، ليرسم صورةً بهيةً للمملكة العربية السعودية، دليلٌ على خيبةٍ وإفلاسٍ وسوءِ إدارة، وسوء تقدير، وعدم معرفة بسر عظمةِ الدولِ والشعوب..!
ونحن هنا في المملكة العربية السعودية، أصل الحروف والكلمات، وأرض الشعر والكلمةِ المبدعة، وأرض الرسالة، وقد قلت:
سَلَامٌ عَلَى شَمْسٍ لَنَا لَيْسَ تَغْرُبُ
وَأهْلٍ هُمُ الْإشراق إِنْ حَلَّ مَغْرِبُ
بِلَادٌ بِهَا مُزْنُ الْحُرُوفِ تَشَكَّلَتْ
فَأَرْوَتْ بِهَا الدُّنْيَا، وَمَا فَاضَ يَخْلُبُ
أساس حَضَارَاتٍ تَتَابَعَ نَسْلُهَا
فَسَادَتْ وَإِنَّ الْأَصْلَ فِي النَّسْلِ يَعْرُبُ
وَهَا قَدْ تَخَطَّتْ بِالرِّسَالَةِ مَهْدَهَا
رِسَالَةُ حُبٍّ.. لَا حُرُوبٍ تُخَرِّبُ
لقد خرج الشعر العربي في أبهى حلله من هنا، ومن المؤلم أن لا يكون له دورٌ في رسم صورتنا في العالم، ونحن نحتضن قمة العشرين G20 ونتبنى رؤية 2030.
والأشد إيلاماً أن يموت الشعراء في وطن الشعرِ وهم مرضى فقراء إلا من شعرهم.
لقد آن الأوان لأن تقوم أجهزة الدولة المعنية بدورها، وأن تُفَعّل البرامج والخطط الهادفة إلى توفير كل السبل لخدمة أصحاب الإبداع، وإخراجها من الملفات والأدراج التي نامت فيها لعقود.
وأن تتبنى أفكاراً جديدة منها رابطة الأدباء، وصندوق الأدباء، والتأمين الطبي، وتفريغ المبدعين.
فهل من المعقول أن تقوم فرنسا وألمانيا بتفريغ الأدباء العرب، ونحن هنا أهل الإبداع والشعر والكلمة..؟
ولنا أن نسأل أين اختفت الجائزة التقديرية للأدب..؟!
وأين هي مناهج التعليم من نتاج المبدع السعودي.. أين هي الجامعات، والهيئات المختصة..؟!
أين هم رجال الأعمال، والبنوك والشركات من المسؤولية الاجتماعية..؟!
كيف يسحب بنكٌ دعمه لجائزة الكتاب من النادي الأدبي بالرياض، وكيف يتخلى رجلُ أعمال معروف، عن جائزة الكتاب في نادي جدة الثقافي..؟!
وهل من المعقول أن تكون جائزة تكريم مبدع على مسيرةِ عمْرٍ درعاً، وخمسة آلاف ريال، كما حدث في حفل تكريم الشعراء المبدعين عام 2019 من قبل ووزارة الإعلام، ومن قرر هذا الرقم الخيالي..؟!
نحن لا نطالبُ بأن يكون الشاعرُ، شاعرُ الفصحى، المحافظ على اللغة والبيان العربي، في وضعٍ ماديٍّ مميز كالفنانين والمطربين، ولاعبي كرةِ القدم، والشعراء الشعبيين، وكتاب الأغاني، وأن تُتَلمَّس احتياجاته، وتُقضَى حوائجه، وأن يحتفى بهِ ويُقدّر مثلهم، وأن يحظى بالجوائز المليونية مثلهم.. فحسب..
بل أن يكون كذلك مصدر فخر واعتزاز من قبل وطنه، وأن يكون فاعلاً في رؤية 2030، يسهم في رسم الهوية الوطنية، ومن ذلك اللغة العربية المهيبة الجميلة، وأن يقترن اسمه باسم هذا الوطن الذي وهبَه عمره وتعبه واحتراقه..
أن لا يُهمَلَ، ويعيشَ منسياً غريباً وهو حبيبُ الحرفِ والناسِ والوطن..
وأن لا يموتَ كذلك وحيداً منسيّاً..!
هذا قليلٌ من كثير، وفيضٌ من غيض، فيما ينبغي أن يكون عليه الحال..
حال المبدعين والشعراء كالزيد.
وحال الوطن العالي بالشعر والحب والجمال.