بينما تواترت الكتب والمصادر التاريخية أن عصور التاريخ تنامت تدوينياً من عصور ما قبل التاريخ، ثم العصور القديمة، ثم العصور الوسطى. وأخيراً العصور الحديثة التي يؤكد كثير من الدارسين أنها تمتد ما بين القرن السادس عشر وحتى نهاية القرن الثامن عشر. وهذا يوافق القرون 10، 11، 12 الهجرية ونجد فيها عصراً حديثاً مبكراً ثم عصراً حديثاً متأخراً، ثم يأتي التاريخ المعاصر الذي يبدأ من نهايات الحرب الكونية الثانية 1945م والتي تشمل القرنين التاسع عشر والعشرين وحتى اليوم وهذا يوافق القرون الهجرية 13، 14، 15 [انظر الشبكة العنكبوتية، موقع مفهرس، دراسة بعنوان: الفرق بين العصر الحديث والمعاصر، 5 سبتمبر 2018م].
ومن هنا فإن المدونة الرحلية التي تعالق معها المؤلف تدخل في فترة التاريخين الحديث والمعاصر لأن أول رحلة درست كانت في العام 1241هـ وهي رحلة جغمان (اليمني) وآخر رحلة كانت في العام 1432هـ وهي رحلة سعدية مفرح (الكويتية) وهذا على مستوى التاريخ الهجري.
أما على مستوى التاريخ الميلادي فقد درست أول رحلة عام 1911م وهي رحلة سليمان فيضي (العراقي) وآخر رحلة عام 1998م وهي رحلة عماد الدين خليل (العراقي) أيضاً! وهنا يتأكد لنا (الزمننة) التي أطَّر بها المؤلف أطروحته النقد/ رحلية!
وأما الجغرفة فيمثلها التحديد المكاني (المشرقية) وهنا يبدأ الارتباك الذهني/ المعرفي/ الجغرفي. فأي المشارق يقصد المؤلف؟! هناك المشرق الإسلامي، وهناك المشرق العربي، وهناك مشارق أخر؟! ولم يطل المقام بهذا السؤال المحير إلا بعد أن قرأت قول المؤلف: «ثم إني اجتهدت أن أضم إلى جانب تحديدها بالمشرق العربي...» ص 8» فأدركت أن العتبة العنوانية قد ضللتنا - قرائياً - ولربما كانت في الأصل كأطروحة علمية (المشرق العربي) ولكنها تحولت مع طبعتها في كتاب إلى (المشرقية) ليتأكد لنا ذلك من خلال المتن الرحلي المقروء وكله من بعض بلدان المشرق العربي.
ورحت أتخيل كم سيكون رائعاً وجميلاً لو توسع المؤلف واستقصى الرحلات (المشرقية) وأعني المشرق الإسلامي، حيث سنجد الرحالة من بلاد فارس وتركيا وشبه القارة الهندية والدول الإسلامية/ الشرقية الآسيوية... إلى آخر دول المشرق الإسلامي؟!
وعلى أية حال فهذه الجزئية من العتبة العنوانية، ما كان لها أن تثير هذا الإشكال المفاهيمي لو أن المؤلف تحرى تحديده المنهجي حسب المكان المحدد والمختار إن سابقاً في كون العمل أطروحة علمية (المشرق العربي)- كما توقعت - أو راهناً في كون العمل مطبوعاً في كتاب (المشرقية)؟!
ومن جانب ثانٍ نجد هذه الجغرفة في بعدها/ المشرق العربي لا تنسجم مع المدونة الرحلية المختارة للدرس والتحليل. فعبر 24 رحلة وجدنا مصر، والسعودية، والشام (سوريا – لبنان – فلسطين)، واليمن، والكويت، والإمارات، والعراق!! فقط ولم نجد سواها من أقطار المشرق العربي!! وهنا نتساءل أين بقية الدول والبلدان من المشرق العربي والتي أكد على أن هذه الرحلات من شتى بقاع العالم العربي» ص 8!
* * *
(4) ويأخذنا المؤلف في رحلة نقد/ رحلية/ إنشائية/ تتبعية ماتعة حول المتون الرحلية المختارة كنماذج، عبر بوابات نقدية تشكلت قبلاً ضمن أطر المدارس النقدية الحداثية من نصوصية وبنيوية وتفكيكية وغيرها واستطاع المؤلف توظيفها في السياق الأدبي الرحلي، متخذاً من العتبات وطبيعة الخطاب الرحلي وحكاياته وتداخلاته الأجناسية ومستويات الدلالات المتنوعة فضاءً نقدياً يلج من خلالها إلى أدبية هذا الجنس الأدبي/ الرحلي.
وبنظرة شمولية إلى المنهجية التي ارتآها المؤلف لإحاطة عمله هذا بسياج مناهجي منضبط نجده يقسم مؤلَّفه إلى خمسة فصول وكل فصل يمثِّل حالة بحثية مستقلة يبدؤها بالمهاد النظري ثم مباحث ثلاثة يتفرع كل مبحث إلى تقسيمات موضوعاتية ثم يختمها بخاتمة تلخيصية لأطروحات كل فصل. وهذا – لعمري – جهد استقصائي، شمولي، لا يقوم به إلا باحث جاد، مخلص، يتفيأ خلفية معرفية ناضجة، ويسعى لتخليد منجز معرفي يتجذر في نفوس المتلقين/ القراء والمهتمين من رحالة ونقاد وأدباء!
ولعل وقفةً مع بعض ختاماته التي انتهى إليها بعد كل فصل من فصول دراسته تعطينا دلالة على ذلك الجهد البحثي العميق. ففي فصل العتبات كانت مباحثه الثلاثية هي: العنوان الرئيس، والمقدمة، والعناوين الداخلية. وأفضى البحث فيها - كما يقول: «إلى جنوح العناوين الرئيسة إلى الوضوح والبساطة، وبالانفتاح على التعيين الأجناسي للنص. وقد تنطوي على جانب من التخفي ومحاولة الإبداع» وفي عتبة المقدمة أفصحت «عن وعي المؤلف/ الرحالة بممارسة طرائق الكتابة معززة من حضوره وحضور المؤلف يكمل حضور أحدهما الآخر». وأما عتبات العناوين الداخلية فهي «مشدودة إلى خيط العنوان الرئيس منتمية له تارة ومنسلة عنه تارة، مرتبطة به دلالياً ومستقلة عنه في نفس الآن» انظر ص ص 282-283 .
وفي فصل بنية الحكاية جاءت مباحثه الثلاثية أيضاً وهي: الزمكنة والشخصيات والأحداث وأسفر الحديث - كما يقول: إن مبحث الزمكنة دال على عمق العلاقة بين الزمان والمكان «فهما معاً عاملان أساسان لبنية الحكاية في الرحلة إذ إن الرحلة نص مكاني بامتياز، حيث مكانات الانطلاق والعبور والهدف قدر ما هو زمني بامتياز، حيث زمن الرحلة وزمن الكتابة وكلاهما عون وسند لبعضهما» وفي الشخصيات نجد التعدد فالمؤلف راوٍ للأحداث وقد يكون أحد الشخصيات «فينسج من نفسه ذاتاً مشاركة في الأحداث وهناك الشخصيات التي التقاها أو وجد فيها محفزاً وإعجاباً وتقديراً».
وفي الأحداث رأينا اشتمال المدونة الرحلية على أحداث رئيسة، وأحداث ثانوية وكلها اشتملت على «توازن في استعمال نظام المقاطع في الجمل القصصية...» انظر ص ص 422-423.
وفي فصل مستويات الدلالة في الرحلة نجد مباحثه الثلاثية - أيضاً - الديني والسياسي والاجتماعي كلها تفضي إلى أن المدونة الرحلية مليئة بالإشارات والإلماحات الدالة على عمق التجذر والوعي الديني الروحي - في نفوس المؤلفين الرحالة - تجاه الحج والمشاعر المقدسة، وما شاهدوه من فضاءات سياسية تتقاسمها دلالتي زعزعة الأمن واستتبابه في عصرين سياسيين مختلفين، وما عايشوه من فضاءات اجتماعية من عادات وتقاليد وسكان ومقاهي! انظر ص ص 607-608.
** **
- د . يوسف حسن العارف