أعتقد أن النشأة الدينية لمجتمعاتنا العربية كان يراد لها أن تكون مجتمعات مدنية بطبعها، ولكن التكوين الديموغرافي حال دون ذلك، وأقصد بالتكوين الديموغرافي هو تشكيل الهويات في الدولة القُطرية الحديثة بشروطها وحدودها، ما جعل لتلك المجتمعات هوية خاصة تأطرت بهم ومن هنا تشكلت الهويات الصغيرة داخل حدود الدولة الحديثة فزاد عُمقها وتجذرها وترابطها خاصة مع عدوم وجود هوية تجتمع عليها تلك المتضادات رغم وجود الإرادة الفعلية من السياسي بتكوين تلك الهوية الحديثة، تتواجد في المملكة على سبيل المثال هويات عميقة ومتجذرة ومتنوعة كالمناطقية والقبلية والطائفية، وهذه الهويات استطاعت في حقب سابقة الهيمنة ولو نسبياً على بعض مؤسسات الدولة ولو كانت على شكل ممارسات خجولة لكنها كانت مؤثرة وتتقاطع مصالحها مع المصالح «المدنية» العليا التي أُنشئت من أجلها تلك المؤسسات ومع إرادة الدولة بالضرورة. وأقصد بالمؤسسات المدنية هي تلك التي تقوم بتقديم الخدمة والنفع العام المؤسس من الدولة كنهج لجميع أفراد المجتمع دون تمييز، وهي تشكل بذلك لبنة من لبنات الدولة المدنية التي تنادي بالقيم الإنسانية والمسلمات كالعدالة والحقوق وعدم التمييز، وهذه القيم هي ذاتها التي نادت بها شريعتنا الغراء منذ القِدم، في ظل هذه الدولة ستضمحل الهويات الصغيرة التي تعطل سير التنمية بفعل ممارساتها النفعيه المحصورة في مصلحة الخاصة دون العامة وبالتالي تعطيل عجلة التنمية دون النظر للقيم العليا التي تنادي بها الدولة. وحقيقة الأمر أن المشاهد والمتعامل مع المؤسسات الحكومية اليوم يرى وبشكل واضح أن هيمنة الهوية تلاشت واستبدلت هذه المؤسسات فكرها بفكر متحضر ومتمدّن جديد، فلا يشعر مرتادها إلا بشعور الفردية في الخدمة دون اللجوء أو الاستنصار بهويته الصغرى «مهما كان نوعها»، ويشعر أن الهوية الجديدة له هي هوية الوطن والوطن فقط. أخيراً كلما كان الفرد نصيراً للدولة في تقدمها من خلال تطبيق الأنظمة فإن ذلك يساعد بلا شك في إسراع عجلة التنمية التي بالضرورة ستنعكس على جودة الحياة في جميع أرجاء الوطن.
** **
- خليل الذيابي