يشيع في كتابات بعض المعاصرين، وأحاديثهم استعمال الفعل (احتاج)، وما تصرّف منه متعدّيًا بنفسه مثل: احتاج الرجلُ قلمًا، أو متعدّيًا بحرف الجرّ اللام مثل: يحتاج الرجل لقلم، ومعلوم أن الفعل احتاج فعلٌ لازمٌ يتعدّى بحرف الجرّ إلى في استعمالاته الفصيحة، وتعتني بعض المعجمات اللغويّة بإيراد حروف الجرّ التي تتعدّى بها غالب الأفعال اللازمة؛ لذا يورد كثير من المعجميّين العرب: قديمهم، وحديثهم الفعل احتاج، وما تصرّف منه متعدّيًا بحرف الجرّ إلى مثل: ابن منظور (ت711هـ) «تحوّج إلى الشيء: احتاج إليه وأراده»(1)، والفيروزآبادي (ت817هـ) «احتاج إليه: انعاج»(2)، وجاء في المنجد الوسيط ما نصّه: «احتاج إلى: افتقر إلى، كان في حاجة إلى، أعوزه احتاج إلى المال تطلّب واستلزم، يحتاج هذا العمل إلى كثير من الانتباه»(3)، وجاء في المعجم الوجيز ما نصّه: «احتاج: افتقر، ويقال: احتاج إليه»(4)، ويورد لويس المعلوف ما نصُّه: «احتاج إليه: افتقر»(5)، ويورد جبران مسعود ما نصُّه: «احتاج احتياجًا (ح و ج) إليه: افتقر، كان بحاجة إلى مساعدته»(6).
ومن المعجميّين المتقدّمين من لم يتعرّض إلى تعدية الفعل احتاج عندما تحدّث عنه مثل: الجوهريّ (ت393هـ) في قوله: «حاج يحوج حوجًا أي: احتاج... وأحوج أيضًا بمعنى احتاج»(7)، وابن فارس (ت395ه) في قوله: «ويقال أحوج الرجلُ: احتاج، ويقال أيضًا: حاج يحوج بمعنى احتاج»(8)، ولعلّ السبب في ذلك راجع إلى شهرة تعدّي الفعل احتاج بحرف الجرّ على.
ومن المعجميّين في العصر الحديث من توحي أمثلته التي مثّل بها للفعل احتاج بأنّه يرى أنّ الفعل احتاج، وما تصرّف منه إمّا متعدٍّ بنفسه مثل: عبد الله البستانيّ الذي يقول: «احتاج الشيءَ، وإليه: افتقر إليه»(9)، ولا أعلمُ علامَ استند البستانيّ في تعديته للفعل احتاج بنفسه؟ فهو لم يذكر شاهدًا على هذا الاستعمال اللغويّ، وهل يحتجّ البستانيّ بلغة المحدثين في صناعته لمعجمه؟ وإن كان يحتجّ بلغة المحدثين، فهلّا ذكر أمثلة على ذلك، أو وضع أمام استعمالات المعاصرين علامةً توحي بأنّ هذا من كلام المولّدين؛ وإمّا متعدٍّ بنفسه أو متعدٍّ باللام، وهذا واضح عند روحي البعلبكيّ الذي يورد ما نصّه: «احتاج يحتاج احتياجًا الشيءَ، أو إليه، أو له»(10)، وما ذُكِرَ عن البستانيّ يقال عن روحي البعلبكّيّ، والذي يتفرّد به البعلبكّيّ -بحسب اطّلاعي- إجازته تعديَّ الفعل احتاج باللام، ولعلّ ذلك تسرّب إليه من استعمال كثير من المعاصرين اللام مكان إلى في بعض الأفعال، ومن ذلك استعمال الفعل احتاج متعدّيًا باللام.
ويرصد محمود إسماعيل عمّار بعض استعمالات المحدثين للفعل احتاج، وما تصرّف منه متعديًا بنفسه نحو: يحتاج الفقير مساعدةً، ويحتاج النجاحُ كثيرًا من الصبر، ويحكم على هذه الاستعمالات بالخطأ، ويرى أنّ الصواب أن يقال: يحتاج الفقير إلى مساعدة، ويحتاج النجاح إلى كثيرٍ من الصبر، وأورد بيتين من الشعر ورد فيهما الفعل احتاج متعديًا بنفسه نحو قول الشريف الرضيّ (ت406هـ):
وما احتاج بُردًا غير برد عفافه
ولا عَرْف طيبٍ غير تلك الخلائق
ونحو قول ابن عنين (ت630هـ):
أنا كالذي احتاج ما يحتاجه
فاغنم ثوابي والثناء الوافي (11).
وليس في هذين البيتين شاهدٌ على جواز تعدية احتاج بنفسه؛ لأنها وردت عند شاعرين عاشا بعد عصور الاحتجاج بالشعر على قواعد اللغة التي حدّدها العلماء من الشعر الجاهليّ حتى آخر من يحتجّ بشعره، وهو إبراهيم بن هرمة (ت150هـ) (12)، ويبدو أنّ الذي حدا بالشريف الرضيّ، وابن عُنين إلى تعدية الفعل احتاج بنفسه هو الضرورة الشعريّة.
ووجدتُ أنّ أبا حيّان التوحيديّ (ت414هـ) - في رسالةٍ منسوبةٍ إليه- قد استعمل الفعل تحتاج متعديًا بنفسه في النثر حينما نقل هذه المحاورة: «-فيقول واحد: يا أبا القاسم، أريد أن أعرف شيئًا من ألفاظ الملّاحين وأحوالهم.
- فيقول: تحتاج أنْ تعرف ألوان المراكب من السفن، والسميريات، والمراكب العماليات، والزبازب، والطيّارات، والشذوات، والبرمات، و...»(13)، وليس في هذا الكلام شاهدٌ على تعدية الفعل يحتاج بنفسه؛ لسببين هما الأول: أنّه خارج عصور الاحتجاج بالنثر الذي حدّده العلماء من الجاهليّة حتّى منتصف القرن سواءٌ أكان في الحاضرة أم في البادية(14)، والثاني: أنّ حذف الجرّ قبل حرف النصب (أَنْ) يعدّه النحويّون قياسيًّا، إن لم يُفضِ إلى لبس، وقالوا في سبب حذف حروف الجر مع أن طولهما بالصلة(15)، وهذا ينطبق على هذا المثال، فحرف الجرّ مقدّر بإلى.
والذي أراه بعد هذه المناقشة أنّ الصواب أن يُعدَّى الفعل احتاج، وما تصرّف منه بحرف الجرّ إلى كما هو شائع في النصوص اللغويّة الفصيحة.
... ... ...
الحواشي:
(1) ابن منظور: لسان العرب، اعتنى به: أمين محمّد عبد الوهّاب ومحمّد الصادق العبيديّ، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، جـ3، ص379.
(2) الفيروزآبادي، محمّد بن يعقوب: القاموس المحيط، تحقيق: محمود مسعود أحمد، المكتبة العصريّة، بيروت، لبنان، 1435ه/ 2014م، جـ1، ص 392 .
(3) المنجد الوسيط في العربيّة المعاصرة، دار المشرق، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2003م، ص 267 .
(4) مجمع اللغة العربيّة في مصر: المعجم الوجيز، مكتبة الشروق الدوليّة، القاهرة، مصر، 1432ه/ 2011م، ص189.
(5) المعلوف، لويس: المنجد في اللغة والأعلام، دار المشرق، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة والأربعون، 2008م، ص160.
(6) مسعود، جبران: رائد الطلّاب، هاشيت أنطوان، بيروت، لبنان، 2019م، ص22.
(7) الجوهريّ، إسماعيل بن حمّاد: معجم الصحاح، اعتنى به: خليل مأمون شيحا، دار المعرفة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1426هـ/ 2005م، ص271.
(8) ابن فارس، أحمد: معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، لبنان، جـ2، ص114.
(9) البستانيّ، عبد الله: الوافي معجم وسيط للغة العربيّة، مكتبة لبنان، بيروت، لبنان، 1990م، ص153.
(10) البعلبكيّ، روحي: المورد العربيّ قاموس اللغة العربيّة المعاصرة مع كلّ المترادفات، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2016م، ص45.
(11) انظر عمّار، محمود إسماعيل: الأخطاء الشائعة في استعمالات حروف الجرّ، دار عالم الكتب، الرياض، المملكة العربيّة السعوديّة، الطبعة الأولى، 1419ه/ 1998م، ص132، ص133.
(12) انظر الأفغاني، سعيد: في أصول النحو، مطبعة الجامعة السوريّة، دمشق، سوريا، الطبعة الثانية، 1376هـ/ 1957م، ص17، ص18.
(13) التوحيديّ، أبو حيّان عليّ بن محمّد: الرسالة البغداديّة، تحقيق: عبّود الشالجي، منشورات الجمل، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 2010م، ص313، ص314.
(14) انظر الأفغاني، سعيد، في أصول النحو، ص17.
(15) انظر الأشمونيّ، نور الدين عليّ بن محمد: شرح الأشمونيّ المسمّى منهج السالك إلى ألفيّة ابن مالك، تحقيق: أحمد محمّد عزّوز، المكتبة العصريّة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1431هـ/ 2010م، جـ1، ص382 .
** **
- د. فهد بن عبد الله الخلف