جنس السيرة الذاتية له خصائص فنية تميزه عن سائر الأجناس الأخرى، وهو في أوجز تعريف «حياة إنسان»، أو سرد متواصل يكتبه شخص ما عن حياته الماضية، ووفق هذا المفهوم تخرج (رواية السيرة الذاتية)، وهي الرواية التي يمكن أن تُفسّر حوادثها بأنها تخص صاحبها، والمقالات الذاتية، وأدب الرحلات، وسوى ذلك من أجناس.
ويمكن تعريف السيرة الذاتية أيضاً بأنها الحديث عن الذات، أو أن يكتب الأديب سيرته الذاتية بنفسه، بخلاف السيرة الغيرية التي يكتبها الآخرون عنه.
وجنس السيرة الذاتية في الوطن العربي لا يأخذ موقعاً متقدماً بين الأجناس الأدبية التقليدية التي تتوافر فيها الأعمال الإبداعية والدراسات النقدية على السواء من نحو الشعر والقصة والرواية والمقالة؛ ولذلك يمكن وصفه بأنه من الفنون الأدبية غير المركزية.
ويمكن تحديد بدايات هذا اللون في الأدب السعودي بسطور كتبها محمد سرور الصبّان عام 1344هـ/ 1922م يُترجم من خلالها لنفسه. تلا ذلك تراجم مشابهة لا تشكل سيراً ذاتية بالمفهوم المعاصر، وإنما هي بواكير هذا الجنس في الأدب السعودي.
وفي عام 1374هـ/ 1954م ظهرت أول سيرة ذاتية في شكل روائي، أو ما يمكن أن يُطلق عليه في المفهوم المعاصر «رواية السيرة الذاتية»، ونقصد كتاب أحمد السباعي «أبو زامل» الذي تحول فيما بعد إلى أيامي وصرّح فيه باسمه. وتتابعت الأعمال بعد ذلك متخذة أشكالاً متعددة، منها 46 يوماً في المستشفى لمحمد عمر توفيق، وهذه حياتي لحسن محمد كتبي، وهي أعمال يُحمد لها الظهور المبكر في أدبنا مشكلة البواكير لفن السيرة الذاتية في الأدب السعودي.
وفي المدة من 1392 ـ 1400هـ (1972 ـ 1980م) صدرت أربعة أعمال، وهي: تجربتي الشعرية لحسن القرشي، وذكريات طفل وديع لعبدالعزيز الربيع، وذكريات لأحمد علي، وسيرة شعرية لغازي القصيبي.
ونظراً لجدة هذا الجنس في أدبنا، وغموض المصطلح في أذهان بعض كتابنا، ومحدودية الأعمال الإبداعية والنقدية التي عُنيت بهذا الجنس، فقد رأينا الدراسات الأولى التي أرّخت للأجناس الأدبية في المملكة تُغفل الحديث عن هذا اللون الأدبي الجديد.
وقد شهد العقدان الأخيران من القرن العشرين ازدهاراً كبيراً لفن السيرة الذاتية في الأدب السعودي: إبداعاً، ودراسات جامعية، ونقداً، وببليوجرافيا، وحضوراً في الأندية الأدبية الرسمية وغير الرسمية، واهتماماً من الصحف والمجلات والنقاد، ودور النشر، مما حمل جائزة الملك فيصل العالمية على تخصيص موضوعها في الأدب عام 1419هـ/ 1998م عن هذا اللون ليكون العنوان (السيرة الذاتية عند الأدباء العرب المعاصرين).
ومن أبرز الأعمال التي صدرت: حياتي مع الجوع والحب والحرب لعزيز ضياء، والسنوات الأولى: ترجمة حياة، لمحمد حسن فقي، وحكاية الفتى مفتاح لعبدالفتاح أبو مدين، ومكاشفات السيف والوردة لعبدالعزيز مشري، وما لم تقله الوظيفة: صفحات من حياتي لمنصور الخريجي، وغربة المكان: صفحات من السيرة الذاتية لإبراهيم الناصر الحميدان.
وواضح من خلال عناوين هذه المؤلفات تفاوتها في تناول السيرة الذاتية، فبعضهم أرادها شاملة لحياته منذ ولادته حتى لحظة الكتابة، ومنهم من أراد تدوين جزء من حياته المرتبط بحياته الأدبية أو الوظيفية.
وقد نتج عن هذا الكم الكبير من الأعمال حركة نقدية نشطة أرّخت لهذا الجنس، وعرّفت بمصطلحاته، وقدّمت توصيفاً لأبرز الكتب التي صدرت، وحاولت أن تتعمق في جزئياته حينما درست لغته وأسلوبه، وشخصية الكتَّاب، والمستويات الزمنية، وصورة المكان، وغير ذلك من القضايا المهمة.
ومن هنا نلحظ أن فن السيرة الذاتية حقّق خلال ثلاثة عقود تقريباً خطوات جيدة؛ لعلها تكون منعطفاً إلى مستقبل أفضل لهذا الفن في العقود المقبلة، ولن يتحقق ذلك إلا إذا نظر الأديب السعودي إلى هذا الجنس الأدبي نظرة جادة لا تختلف عن نظرته تجاه الأجناس الأخرى، كالشعر، والقصة، والمقالة التي يحاول فيها أن يبذل غايته في الإتقان، وأن تتجاوز المجموعة الثانية المجموعة الأولى .. وهكذا.
ويفترض في الكاتب إذا أراد لعمله الرواج والنجاح أن يكون موضوعياً صادقاً شجاعاً في قص مجريات حياته في حدود المستطاع؛ لأن هناك محاذير كثيرة قد تعوق كتابة السيرة بصدق خالص، ومن بينها المحذور الاجتماعي، والديني، ومشاركة الآخرين له في كثير من الأحداث.
وتكشف السير الذاتية للأدباء السعوديين أنهم من كبار المثقفين في المملكة العربية السعودية، ومن الفاعلين في الحركة الأدبية، ففيهم شعراء، وقاصون، وروائيون، وصحفيون، ونقاد.
ومن خلال أعمالهم ـ في الجملة ـ تتكشف بجلاء عصاميتهم وصراعهم مع الحياة، ودورهم المهم في التعليم والإصلاح والتنوير، وتكشف السير كذلك حالة الفقر وشظف العيش وصعوبة المواصلات التي كان يعاني منها سكان المملكة العربية السعودية قبل نحو قرن من الزمان، وكيف تحولت الآن كل هذه العقبات التي عاشها الرواد إلى نهضة حضارية شاملة نقلت القرى إلى مدن كبرى متطورة .
السيرة الذاتية في المملكة: نمو الإبداع.. ومواكبة النقد
عندما أعود إلى ما قبل ربع قرن من الزمان عندما سجّلت موضوعي في الماجستير في السيرة الذاتية في الأدب السعودي، وأتذكر هذه المغامرة البحثية في جنس أدبي لم يدرس بعد، ولم يكن من اهتمام مؤرخي الأدب في المملكة على الإطلاق، مع خفوت تام في تناوله أو تناول الأعمال الإبداعية فيه، وأقارن بين ما كان وما نحن عليه الآن أشعر بفخر واعتزاز وأن المغامرة باتجاه هذا الجنس آتت أكلها أو كادت إذ أصبحت السيرة الذاتية جنساً له حضوره النقدي في أماكن رصينة مختلفة، وفي المقدمة الجامعات السعودية التي ساندت تسجيل أكثر من رسالة ماجستير ودكتوراه في هذا المجال، ومن الرسائل:
السيرة الذاتية عند أدباء المملكة العربية السعودية في مرحلة الطفرة، وتعالق الرواية مع السيرة الذاتية لعائشة بنت يحيى الحكمي، والسيرة الذاتية النسائية في الأدب العربي المعاصر، السَّرد (السير ذاتي) في الأدب الوسائطي، السيرة الذاتية التلفزيونية أنموذجاً، للدكتورة أمل التميمي، وسير الشعر الذاتية في الأدب العربي الحديث للدكتورة أسماء الجنوبي، وفضاء السيرة الذاتية في الأدب السعودي، لسعيد بن علي الجعيدي، وأجناسية السيرة الذاتية السعودية: دراسة إنشائية، لجزّاع بن فرحان الشمري، وصورة الغرب في السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث في مصر: دراسة موضوعية وفنية، لنوال المجاهد، وعتبات النص في السيرة الذاتية في الأدب السعودي، لنوف بنت راشد المحيش، والبناء الفني للسيرة الذاتية في الأدب السعودي الحديث: دراسة نقدية بلاغية، لمنصور بن عبدالعزيز المهوس، وحكي الذات: السيرة الذاتية لأدباء المدينة المنورة: دراسة نقدية للدكتور محمد الدبيسي، والمرأة في السيرة الذاتية السعودية لبسمة القثامي، والشرق والغرب في السيرة الذاتية العربية لخالد الخشرمي، وذكريات علي الطنطاوي للدكتور أحمد آل مريّع، وجمالية المكان في السيرة الذاتية في الأدب السعودي لوائل الجفير، وتشكّلات الزمن والمكان في السيرة الذاتية السعودية لإيمان المحارب، يضاف إلى ذلك رسالة عبدالله الحيدري «السيرة الذاتية في الأدب السعودي».
نحن أمام سبع عشرة رسالة جامعية (ماجستير ودكتوراه) أنجزت في المدة من 1417هـ إلى عام 1440هـ، أكثر من ثلاثة وعشرين عاماً، وهي أعمال كثيرة في رأيي بالنظر إلى عدم وجود أي عمل قبل عام 1417هـ.
كما أن هذا المنجز اشتركت فيه أكثر من جامعة سعودية، وهي: جامعة الإمام، وجامعة الملك سعود، وجامعة أم القرى، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وكليات البنات التي تحولت إلى جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، وأصبح تياراً بحثياً تُعنى به أكثر من جامعة، وربما هناك رسائل لم أعلم عنها في جامعات أخرى.
وهناك رسالتان في السيرة الذاتية أُنجزتا خارج المملكة، وبالتحديد في الولايات المتحدة الأمريكية، وهما للدكتورين: صالح بن معيض الغامدي، وفايز الغامدي.
كما وجدنا بعض الباحثين ينشرون بحوثاً محكّمة في مجال السيرة الذاتية، ومن البحوث المنشورة بحث عنوانه «السيرة الذاتية النسائية السعودية في المملكة العربية السعودية: إرادة البوح وإشكالية التصنيف»، للدكتور بدر بن علي المقبل، نشر في مجلة العلوم العربية والإنسانية (جامعة القصيم)، المجلد7، العدد 4، شوال 1435هـ/ يوليو 2014م.
كما شهدت الساحة الثقافية في المملكة وجود نقاد يُعنون بجنس السيرة الذاتية وينشرون بحوثاً ومقالات في الصحف والمجلات المحلية، وفي المقدمة من هؤلاء: الدكتور معجب الزهراني، والدكتور صالح بن معيض الغامدي، والأستاذ حسين بافقيه، والدكتورة أمل التميمي، والدكتورة عائشة الحكمي، وغيرهم.
بل إن الدكتور صالح الغامدي نشر كتاباً كاملاً يضم بحوثاً في السيرة الذاتية، وهو «كتابة الذات» عام 2013م، وحصل على جائزة الملك عبدالعزيز للكتاب التي ترعاها دارة الملك عبدالعزيز، وكذلك فعل حسين بافقيه الذي جمع بحوثه في السيرة الذاتية في كتاب سماه «عبروا النهر مرتين: قراءات في السيرة الذاتية»، وصدر في عام 1440هـ/ 2019م.
كما لقي جنس السيرة الذاتية عناية من لدن المؤسسات الثقافية، ومن ذلك تخصيص نادي الرياض الأدبي عام 1419هـ/ 1998م العدد الحادي عشر من مجلته قوافل ليكون عن السيرة الذاتية في الأدب السعودي, وحضوره في ملتقى «عقدان من الإبداع الأدبي السعودي» عام 1422هـ/ 2001م»، وملتقى «الرواية بوصفها الأقوى حضوراً» عام 1424هـ/ 2003م في نادي القصيم الأدبي.
وفي عام 1429هـ/ 2008م خصّص نادي جدة الأدبي الثقافي ملتقى قراءة النص الثامن ليكون عنوانه الرئيس «السيرة الذاتية في الأدب السعودي»، وطبع كتاباً عنوانه «السيرة الذاتية في المملكة العربية السعودية: ببليوجرافيا» ووزّعه على حضور الملتقى، ثم طبعت البحوث في عددين من مجلة علامات النقدية، وهما العددان: 65، و66 (1429هـ/ 2008م).
وقد وضع النادي الأدبي بالرياض عام 1439هـ/ 2018م عنوان الدورة السابعة من ملتقى النقد الأدبي في المملكة العربية السعودية «السيرة الذاتية في الخطاب النقدي السعودي»، وطبعت بحوث الملتقى عام 1440هـ/ 2019م في كتاب زادت صفحاته على 750 صفحة.
وبينما كان هذا الجنس الأدبي لم يأخذ حقه في الدراسات التي تؤرِّخ للأدب في المملكة في العقود الماضية إذا به يأخذ مكانه إلى جانب الأجناس الأخرى الأقدم في موسوعة الأدب السعودي الحديث الصادرة عام1422هـ/ 2001م عن دار المفردات بالرياض، وفي «مختارات من الأدب السعودي» الذي أصدرته وزارة الثقافة والإعلام في عام 1432هـ/ 2011م.
وهذا الحضور النقدي والبحثي الملحوظ في الجامعات وفي الأندية الأدبية وفي الصحف والمجلات أثمر حركة نشطة في مجال نشر الأعمال الإبداعية، ويمكن أن أضع بين يديكم مقارنة بين الأعمال التي صدرت قبل هذا الحراك النقدي، والحراك بعده، ففي عشرين عاماً في المدة من 1397 حتى 1417هـ وهو تاريخ مناقشة أول رسالتين في السيرة الذاتية صدر عشرون عملاً إبداعياً فقط، وفي عشرين عاماً أخرى في المدة من 1417هـ حتى عام 1439هـ صدر أكثر من سبعين عملاً إبداعياً، وهو ما رصدته في الطبعة الثانية من كتابي «السيرة الذاتية في المملكة ببليوجرافيا» الصادر عن كرسي الأدب السعودي عام 1439هـ/ 2018م.
ومما يلاحظ على هذه الأعمال السبعين أن ستة أعمال منها لنساء، وهو ما كان مفقوداً في السنوات التي سبقت عام 1417هـ، إضافة إلى هذا العدد الكبير في مدة وجيزة يدل على أثر الحركة النقدية في نمو هذا الجنس الأدبي وازدهاره.
** **
د . عبدالله الحيدري - عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية