الهادي التليلي
علاقة الإنسان بالعمل؛ هذه العلاقة العمودية التي تتسم بالقسرية والتسلط، مما جعل الفلاسفة والمفكرين وعلماء اجتماع العمل، ومن بينهم دافيد دوركهايم، يرون العمل على إيجابياته لم ينجح في تجاوز العلاقة التسلطية بين الشغل والمعبر عنه بالواجب والمفروض والإنسان الذي يرى نفسه أسمى من حصره في بوتقة تشغيلية روتينية، فمنذ اللحظة الرومانية والإغريقية كان العمل، خاصة منه اليدوي، من نصيب الفئة الدنيا من المجتمع، خاصة العبيد الذين ليس لهم الحق في الانتخاب حسب تصنيفهم الطبقي الذي أدمجوا فيه العمل والصنائع والحرف هي مهمة العتقاء والمأجورين والغرباء، وأما الطبقة المخملية -آنذاك- فهي من بيدها الجاه والسلطة والفكر.
الثورة الصناعية التي بدأت فعلياً في القرن 18، كانت إيذاناً بتحول المجتمع وأنماطه، تحول النمط العام من زراعي إلى صناعي، وحتى الجو العام للمجتمع الذي بشرت به المكننة واعتبرت أنه بمجرد إحداثه انتقل العالم إلى مجتمع أكثر تطوراً، فقد حولت الإنسان في فترة من الفترات إلى ما يشبه الآلة، وهنا يحضرنا النقد اللاذع الذي وجهه شارلي شابلن لهذا النظام من الحياة في شريطه «الأزمنة المعاصرة»، حيث جعل الإنسان الذي يقوم بحركات آلية أثناء العمل أشبه ما يكون بآلة خارجه الإنسان حسب شارلي شابلن كائن أوسع من حصره، ومن زاوية أخرى لا تقل جدية في تناول المسألة، نجد تناول ميغال دي سرفنتس الإسباني الذي رأى في طواحين الهواء التي هي في الحقيقة النواة الأولى للمجتمع الصناعي باعتبارها الصناعة التحويلية الأولى، والتي بشرت بالعولمة في وقت متقدم، وغيّرت نمط المجتمع لاحقاً، فجند فارس روايته دون كيشوت مكسياً إياه زي المحاربين ومسلّماً إياه سيفاً بتّارًا كي يقاوم هذه الطواحين قبل أن تتغول على العالم والإنسان.
وفي حقيقة الأمر، العمل صار مثمناً بشكل هام مع صعود المجتمع البورجوازي، خاصة طبقة التجار والأطباء والصيارفة وغيرهم، وأيضاً لا ننسى ظهور الدولة البلشفية مع فلاديمير لينين الذي انتهج تعديلاً للماركسية بنظرة خطوتين للأمام وخطوة للوراء؛ أي بما أن المجتمع الفلاحي -آنذاك- هو السائد، فتعديل النظرية للاستجابة للواقع أمر حتمي.
العمل في كل اللحظات التاريخية والتحولات المذكورة لم تكن فيه العلاقة بين العامل والعمل بتلك المحبة والألفة، لذلك تم إنشاء المنظمات الشغيلة وجمعيات الثقافة والشغل لتخفيف الوطأة، وفتح هدنة بين العامل والعمل، ودور هذه المنظمات زيادة على الدفاع عن حقوق الشغالين ترفه وتنجز برامج ترفيهية لهم قتلاً للسأم والروتين، هذه الهياكل ركّزت في تصورها ومحتواها على وقت الفراغ الوقت غير المضبط بالتزام مهني مع الالتزامات الفيزيولوجية كالأكل والنوم، الوقت الحر هو كل الوقت من ساعات ودقائق وثوانٍ يخصم منها وقت العمل، حيث إرادة الإنسان فيها عالية، ويكون متحرراً من ربقة العمل.
المؤسسات المهنية والثقافية والترفيهية وغيرها، ركّزت شغلها على مسألة الترفيه أثناء الوقت الحر، وذلك إفراغاً لما تخلل الجسد والذهن من تعب وإرهاق وإعادة شحن الذات بما يحقق التوازن المطلوب في الجهاز النفسي البشري، فكانت البرامج والأنشطة والفعاليات الدائمة والتي تتأقلم مع الفصول والأحداث..
حتى جاءت كورونا الجائحة التي فرضت على الإنسان ولأول مرة في التاريخ حجراً طوعياً في جانب منه وإجبارياً في جانب آخر، فكانت مصنعاً للقلق والسأم، وتمدد حجم وقت الفراغ، وتقلص وقت العمل، وتفننت الشعوب في بدع ترفيهية جاذبة وطريفة، وبدأت كورونا تستعد لمغادرة العالم بعد جهود الأطباء ومخابر البحث والحكومات والمنظمات وغيرها من الجهود والخوف من نسلها، نعني هنا بات كورونا، وأعني به الآثار النفسية التي قد ترفق معها لبيئة العمل مساوئ يصعب تجاوزها، وتحتاج ليس فقط لجهود علماء نفس العمل وجهود اجتماع العمل وغيرهم، وإنما تحتاج إلى جهود خبراء الترفيه لبناء ترفيه أثناء وقت العمل، والذي هو في الحقيقة علم ومجال ليس بالجديد ولكن الجديد هو أن كوفيد19 المستجد فرض واقعاً مختلفاً، فخروجها لم يكن صعباً أكيد لأنها ستترك بناتها من آثار نفسية وبيولوجية على ملايين الأشخاص، ومن ثمة لا بد من سياسة ترفيهية تتخطى حدود الجغرافيا، بحكم حتميات التاريخ، الترفيه أثناء العمل لا يتمثل في ساعة نشاط داخل مؤسسة الشغل للعمال، وإنما تغيير عقلية العمل من الأمر والطاعة ومن السرعة وراء أرقام الإنجاز إلى خلق بيئة جاذبة لحب المنخرطين فيها على حد السواء، وتنشيط المجال السمعي بموسيقى، وتركيز إذاعات داخلية يشارك فيها العمال، وفقرات تنشيطية بدقائق أثناء الدخول للعمل، وهي فترة مهمة، حيث تفصل من مناخ النوم الزحمة المرورية وما يرافقها أحياناً من تشنج ومجال العمل والقطع بينهما بحصص تنشيطية قصيرة تدمج العامل في جو البهجة، لأن العمل المثالي هو الذي تسوده أجواء البهجة، فالترفيه داخل أوقات العمل يعطي روح البذل للعامل وينمي عجلة الإنتاج، ويعد أحسن استثمار في الموارد البشرية التي هي سر نجاح كل منشأة، فلا إبداع أو خلق أو إنتاج مختلف محلق خارج السرب في بيئة كئيبة مملة قاتلة، يكون فيها العامل عبارة عن كتاب مركون على الرف بلا عناية، يزيده الغبار كل يوم تهرماً وموتاً وتلاشياً للمعنى وللحياة والإبداع.
البيئة البصرية والسمعية والمعايشة للعالم الخارجي إبداعياً مسألة غاية في الأهمية لذلك بالبهجة في العمل والسلاسة في الحوار المهني بين كل الأطراف والفواعل والبرامج الطريفة، والتي يشارك في إنجازها العمال والموظفون، تعطي روحاً للعمل، كما أن سلم الحوافز والتركيز على الجانب الاعتباري للمنتمي للبيئة التشغيلية، مسألة صانعة للمعنى والإبداع، كما أن سلاسة الطموح المهني والتدرج الوظيفي يفعل فعله في التحفيز.
وكل هذا لا يكون بشكل عفوي وإنما مؤسسي، وعبر شراكات بين القطاع المهني والقطاع الترفيهي، وهكذا يكون الترفيه زيادة على كونه من ناحية قطاعاً تنموياً مدراً بأرباح خرافياً كصناعة يكون من ناحية أخرى فاعلاً في التنمية المهنية العامة، وهذا قدره لأنه وكما قلنا ونقول الترفيه هو الإنسان حين يعبر.