د.محمد بن عبدالرحمن البشر
العرب مثل جميع الأعراق في العالم، يعشقون العيون الجميلة، وإن اختلفت الأذواق في اللون المحبب، طبقاً للموروث أو المتاح، ولا يكاد أحد ينطق العربية، إلاّ وقد سمع بتلك القصيدة الرائعة لعلي بن الجهم ذلك البدوي، الذي صنعت منه البداوة خشونة، ومنحته الحضارة نعومة.
والأغلب يعرف قصته مع الخليفة العباسي المتوكل، عندما قدم إليه، ووقف في مجلسه وألقى قصيدته التي ضمنها ما كان يعيشه في بيئته، حيث قال:
أنت كالكلب في حفاظك للود
وكالتيس في قراع الخطوبِ
أنت كالدلو، لا عدمناك دلوًا
من كبار الدلا، كبيرَ الذَّنوبِ
وكاد أن يبطش به الجالسون، لولا فطنة الخليفة المتوكل، فمنعهم، وأمر له بدار حسنه على ضفاف نهر دجلة، بها بستان وحديقة غناء ينساب الماء في جداولها، انسياب أشعة الشمس بين الأغصان، وقد هيئ له فراش وثير، ومهجع مريح، وكان يحضر إليه ما لذ وطاب من طعام وجواري حسان، ذات قامة مناسبة، وجسم مياس، يتمايلن في غدوهن ورواحهن، وروائح العطور تفوح من أجسادهن، كما لو كن قد غطسن في بركة المعتمد بن العباد، التي صنعها لجاريته اعتماد البرمكية، وألوانهن خليط بين البياض والسمره، وكأنهن قد جلبن من البرازيل في مفهوم عصرنا الحالي، ولهن عيون واسعات كعيون المها، وشعرهن الأسود يتدلى على أكتافهن ليزيدهن بهاء ونظارة، وبعد عام، طلب الخليفة إحضاره، وكان قد أعد قصيدته المشهورة:
عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ
جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري
أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ القَديمَ وَلَم أَكُن
سَلَوتُ وَلكِن زِدنَ جَمراً عَلى جَمرِ
فصاح الخليفة طرباً، لهذا فإن جمال العيون قد حدا بهذا الشاعر الفذ أن يستهل قصيدته بها، كما أن بيئته قد لعبت دوراً في وصفه وتوجه عشقه.
ونجد في العصر العباسي من يمتدح العيون الخضراء أو الزرقاء، وذلك بعد أن اختلطت الأجناس وأصبحت البيئة، أرحب فضاء للشاعر لينوع ذوقه ووصفه، ولكن ظلت العيون السوداء مقصد العاشقين، والشعراء، والهائمين.
وظل اكتناز الشحم بشكل جلي في منطقة حساسة من المرأة عنواناً للجمال عند العرب في القديم، وعند الأغلب في العصر الحديث، بينما نجد أن ذلك غير جاذب لدى بعض الشعوب مثل الصين أو الغرب، وهذا الشاعر العربي يبالغ في وصف جزء من محبوبته ويبالغ مبالغة مفرطة، لكن أعذب الشعر أكذبه، فيقول:
من رأى مثل حبَّتي
تُشْبه البدر إذ بدا
تدخلُ اليوم ثم
تدخُلُ أردافها غدا
وأما أبوالأسود الدؤلي، اللغوي المشهور، فوصف جاريته، ومدحها بقوله:
مهفهفت الأعلى
رداح المؤخر
أي أن بطنها ظامر، لكن أردافها ضخمة
والحقيقة أن محبة اكتناز الشحم في الجزء الحساس من المرأة موروث قديم منذ بداية التاريخ، ولهذا فإن اقتنان الفراعنة في مصر قبل خمسة آلاف عام باكتناز الشحم في الجسم الحساس من المرأة، اعتبره بعض علماء المصريات الحاليين مثل العالم وود فورد، أحد الأدلة على أن أصل مصر بداية حكم الفراعنة أفريقياً، لأن الآثار قد بينت أن المجتمع الأفريقي آنذاك كان يفضل هذا الجمال في المرأة، ولهذا فقد نقل المصريون معهم هذه النظرة الجمالية في المرأة، ولم يشتهر في كتاباتهم الخالدة عن جمال المرأة سوى هذا الوصف، وهم من ترك للعالم موروثاً رائعاً في كل شيء مثل العبادات والحروب، والنظام الإداري الرائع، والجبروت والظلم، على أن ذلك الجبروت والظلم لا يختلف عما كان سائداً في الشام والرافدين، وبحر ايجه، والأناضول، فقد كانت سمة ظاهرة ربما لشعوب العالم أجمع في ذلك الوقت.
لا أعتقد أن العرب قد افتتنوا بالجانب المادي من المرأة فحسب، حتى وإن أسهبوا في وصف كل جزء منها، فقد عشقوا في المرأة حسن المنطق، والذكاء، والفطنة، والأدب، لهذا نجد أحد الفتيان يريد الزواج من فتاة، يقول عنها «التي يشفي السقيم كلامها، ويبرئ الوصيب إلهامها» وشفاء السقم، وبرء التعب، ليس مادياً ملموساً، وإنما هو إحساس روحي يصدر من المرأة فينبعث سحره في روح الرجل، أو العكس، وعندي أن ذلك أجمل وألذ من منظر الجسد، وهذا ما نجده عند بعض الغربيين، دون اعتبار للون أو العمر.
والشاعر تأبط شراً يصف بقول عن حديث فتاته «شهد بمزيج عنبر والشاعر ذي الرمة، يصف سحر عيون من يحبها وكأنما تسقيه خمراً» ويشيد بمنطقها وريقها المسكر.
في ظني أن المرء يحتاج بين الفينة والأخرى إلى شيء من الحديث عن الجمال الإنساني المادي، للمؤانسة والبعد عن هموم الدنيا المتراكمة، التي كانت وما زالت صفة بشرية تنقضي، بفراق الروح للجسد.