د. عبدالحق عزوزي
سبق وأن كتبنا في هاته الصحيفة الغراء، أن المنظر الأمريكي جوزيف ناي في مقالة أخيرة له بـProject Syndicate أوضح أن تقديرات التأثيرات على المدى الطويل للجائحة الحالية ليست دقيقة؛ وأضاف أنه لا يوجد تصور مستقبلي واحد مضمون الحدوث حتى عام (2030) وبدلًا من ذلك تنبأ بإمكانية حدوث خمسة سيناريوهات محتملة كالتالي:
- نهاية النظام الليبرالي العالمي.
- استبداد سلطوي يشبه فترة الثلاثينات.
- نظام عالمي تهيمن عليه الصين.
- أجندة دولية خضراء.
- استمرار الوضع الحالي. تعاون مع الصين في قضايا معينة مثل (تغير الأوبئة، التغير المناخي) وبنفس الوقت استمرار المنافسة في قضايا أخرى مثل (حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي).
وأكد ناي أن التطوير السريع للقاحات الفعالة سوف يعزز استمرارية المنافسة ويقلل من احتمالية السيناريوهات الاستبدادية الصينية. وختم أنه قد ينتج عن جائحة كوفيد تغييرات محلية مهمة تتعلق في الرعاية الصحية والتعليم.
وأنا أقول بأن النظام العالمي في ظل جائحة كورونا يعيش أسوأ أزماته، وبدأت تظهر محددات جديدة له وإكراهات غير مسبوقة؛ فالجائحة أبانت أن النظام العالمي مريض وأناني، والدولة- القومية في أزمة، والمرحلة الحالية والمقبلة بدأ يتغير فيها كل شيء بدءاً من أسس هذا النظام وأولويات الدولة القومية وأسس العلاقات الاجتماعية الجديدة.
وإذا أخذنا مثالاً مكوناً من مكونات هذا النظام العالمي الجديد، وأعني بذلك الاتحاد الأوروبي، سنفهم الدعوة الأخيرة للمستشارة الألمانية السيدة أنغيلا ميركل، عندما دعت نظراءها الأوروبيين إلى عدم إغلاق حدود دولهم مرّة أخرى في خضم الموجة الثانية من تفشي فيروس كورونا السريع في دول القارة. وقالت «بالنسبة إلى ألمانيا، الدولة الواقعة وسط أوروبا، من المهمّ أن تبقى الحدود مفتوحة وأن يواصل الاقتصاد العمل وأن نحارب الجائحة معا».
ففي ظل الأزمات الكبيرة لا تفكر الدول إلا في نفسها، خاصة إذا كانت من حجم فيروس كورونا الذي بدأ يملأ المستشفيات الأوروبية بالمرضى وبدأت دولها تعلن تباعاً فرض حجر صحي كامل.
كما نفهم قرار الاتحاد الأوروبي في الأيام الأخيرة وضع ميزانية تقدر بمبلغ 220 مليون يورو من أجل نقل المرضى بكوفيد-19 من دوله الأشد تضرراً والتي تعاني نقصاً في الأسرة إلى أعضاء آخرين من دوله التي تتوافر بها أسرة فارغة؛ وقد شددت رئيسة المفوضية الأوروبية على أهمية «تشارك بيانات دقيقة آنيا» حول قدرات وحدات العناية المركزة في الدول الأعضاء. ودعت المسؤولة إلى تعزيز ترابط التطبيقات المستعملة لتتبّع الإصابات في كلّ دولة، وقد رُبطت ثلاثة منها حتى الآن بنظام وضعتهُ بروكسل.
ولكن أولوية الأولويات هي مسألة حرّية الحركة التي تعطّلت في الربيع مع ظهور الوباء، والتي لا يريد حراس الاتحاد الأوروبي إيقافها مع الموجة الثانية لما لذلك من تداعيات اقتصادية واجتماعية بل ونفسية على الدول الأعضاء.
الاتحاد الأوروبي هو عبارة عن مشروع فكري وحدوي اختمر في أذهان وكتابات مفكرين وحكماء وفقهاء قانون مبرزين وفلاسفة، قبل أن يصبح حقيقة ومشروعا سياسيا حقيقيا بمؤسسات قوية تجمع رؤساء دول ووزراء حكومات وخبراء وبرلمانيي الأمم؛ ورغم تباين دولها من حيث درجة التقدم الاقتصادي والمالي والفلسفة السياسية والاجتماعية السائدة، فإنها استطاعت مجتمعة من خلال حكمة بعض من أعضائها والمبادئ الوحدوية السامية من إصدار عملة أوروبية موحدة حلت محل العملات الوطنية، وساهمت في إقامة تدريجية لوحدة اقتصادية حقيقية، وتحويل أسواق الدول المشتركة في حركة التكامل والاندماج الأوروبي إلى سوق داخلية واحدة. وتمكن الاتحاد الأوروبي من تحقيق هاته المنجزات وغيرها بفضل عوامل الثقة السائدة، وبفضل عوامل سياسية وعوامل اقتصادية وعوامل تشريعية، مما جعل من الاتحاد الأوروبي نظاماً سياسياً وقانونياً له طابع خاص.
ويقيني أن الأوروبيين يخافون من تداعيات غلق الحدود بين دوله أكثر من أي وقت مضى، لأن الثقة التي عليها بني الاتحاد الأوروبي ستنعدم، كما ستتهاوى كل الأسس التي تجعل من العمل المشترك مسألة مصيرية للجميع؛ ومما يزيد الطين بلة، أنه في ظل هاته الجائحة، يصعب على الدولتين الرئيسيتين في الاتحاد الأوروبي، وأعني بذلك ألمانيا وفرنسا اللتين تقودان بطريقة مباشرة وغير مباشرة سفينة الاتحاد الأوروبي، القيام بمهامهما الريادية وإصلاح ما اعوج في مسيرة الاتحاد؛ وهذا يبين لنا خطورة الأزمة التي يمر منها الاتحاد الأوروبي ويعطي لنا تصوراً للنظام العالمي المقبل.