د. محمد بن إبراهيم الملحم
دراسة نشرت عام 2014 بحثت العلاقة بين نتائج الطلاب الإيطاليين في اختبار بيرلز في القراءة ونتائجهم في اختبار تيمز للرياضيات والعلوم بهدف معرفة ما أثر تمكن الطالب من الفهم القرائي على التقدم في كل من الرياضيات والعلوم، أي هل توجد علاقة تربط بين المهارتين: اللغة والرياضيات، وتوصلت الدراسة إلى وجود هذه العلاقة فعلاً، وقد عملت عدة دراسات مشابهة قبل هذه الدراسة وبعدها للتعرّف على طبيعة هذه العلاقة بين المهارتين وفي أي المجالات الدقيقة أحياناً وكلها تتوصل إلى وجود علاقة، ومنها مثلاً دراسة عملتها جامعة أوهايو عام 2015 على طلبة المرحلة المتوسطة بتحسين قدراتهم القرائية فانعكس ذلك على نتائجهم في موضوعات الجبر من مادة الرياضيات لترتفع نتائجهم بنسبة 15 %، والواقع أن هذه المعلومة استدعت لدي ما خبرته عن الجيل الرواد من الطلاب في التعليم العام إبان انطلاق المدارس النظامية في المملكة وقد عاصرنا هؤلاء ولا يزال عددٌ منهم بين ظهرانينا اليوم أطال الله في أعمارهم وشاهدنا كيف اتسمت لغتهم بالسلامة والجودة والبلاغة سواء في قراءتهم أو في كتابتهم، فتعبيرهم رشيق وخطهم أنيق، وإذا قرأت مقالة لأحدهم شدك جمال الأسلوب وسبك السرد وصحة اللغة وترادف المعاني وثروة المفردات. ولا يقتصر تفوقهم على اللغة، بل هم متفوّقون أيضاً في الحساب فهم سريعو التفكير ولديهم مهارات حسابية خاصة بهم تثير إعجابك أحياناً، فمع تقدمنا في العلوم والرياضيات وتوفر المصادر المتنوِّعة لدينا فلم يتمكّن بعض طلابنا مما تمكّنوا منه، وقد عملوا في مجالات العمل كلها بتنوعها فنجحوا ونجحت تلك الأعمال سواء كانت في المجال الحكومي أو الشركات أو أعمالهم الخاصة المزدهرة.
وما ربط عندي بين هذه الصورة التاريخية ونتائج الدراسات التي قدمت بها هنا هو أن السر في تفوق ذلك الجيل هو أن تعليمهم سادت فيه ثقافة الاهتمام بالقراءة والكتابة في الصفوف الأولى أيما اهتمام، وكان الصف الأول هو عين المدرسة الأولى وبقية الصفوف هي عينها الثانية، ولا عجب في هذا التصور لأنهم حال بدأ التعليم النظامي كانوا قد ورثوا الصورة النمطية للتعلم من «الكُتّاب» فأحضروا روحها معهم ليصبح الصف الأول هو غاية هم المعلم ومدار اهتمامه لتحقيق ذاته كمعلم يرغب أن يثبت جدارته في مهنته بين أبناء مجتمعه ... وفي «الكُتَّاب» غاية التعليم أن يقرأ المتعلم ويحسن الكتابة ويجيد الخط سواء كان ذلك في سنته الأولى أو الثانية ولا ينتقل إلى دراسة الحساب (وهي صيغة مادة الرياضيات آنذاك) إلا وقد أتقن القراءة وانتهى من هذه المهارة تماماً وأثبت جدارته فيها، لا أنه سيستكمل هذه المهارة لاحقاً كما هو حال مناهجنا اليوم، ومع أن التعليم النظامي آنذاك وضع مادة الحساب في الصفوف الأولى إلا أن انصراف هم المعلم إلى القراءة كأولوية لديه نتيجة لموروثه التاريخي في تقديم هذه المهارة وإعطائها قيمة أعلى كان له الأثر الأكبر على التعليم وجودة مخرجاته. وتحليلي هذا يمكنني تصور أنه ليس خاصاً ببلدنا، بل ربما هو في كل البلاد العربية باختلاف المدى التاريخي حسب دخول تاريخ نشأة المدارس والمقررات النظامية في كل منها، ولكن لاشتراكنا جميعاً في المفاهيم التي قدمتها حول «الكُتَاب» ونظرة المعلم إلى أهمية القراءة والكتابة وتقديم شأنها على أي موضوع آخر لا شك أن له أثره على التفوق التعليمي.