عطية محمد عطية عقيلان
المتنبي من أشهر الشعراء الذين انتشرت قصائدهم لما تحمله من بلاغة وقوة تعبير، بل تتداول في كثير من الأحيان أبياتٌ أو شطر منها لنستدل بها على الحكمة وكدروس في خبرات الحياة والبشر.
وتعتبر قصته مع كافور الإخشيدي من الحكايات المعبِّرة عن تغيُّر النفوس وتلونها نتيجة المصالح والاستفادة المادية والمنصب، حيث بدأت علاقة المتنبي بعد مغادرته مجلس سيف الدولة والتوجه إلى حاكم مصر كافور الإخشيدي الذي كان يرعى الأدباء والشعراء ويجزل لهم في العطاء، فتقرَّب منه المتنبي ونظم فيه قصائد المدح منها هذا المقطع:
وَلِلنَفسِ أَخلاقٌ تَدُلُّ عَلى الفَتى
أَكانَ سَخاءً ما أَتى أَم تَساخِيا
أَقِلَّ اِشتِياقاً أَيُّها القَلبُ رُبَّما
رَأَيتُكَ تُصفي الوُدَّ مَن لَيسَ جازِيا
خُلِقتُ أَلوفاً لَو رَحَلتُ إِلى الصِبا
لَفارَقتُ شَيبي موجَعَ القَلبِ باكِيا
وَلَكِنَّ بِالفُسطاطِ بَحراً أَزَرتُهُ
حَياتي وَنُصحي وَالهَوى وَالقَوافِيا
واستمر في مدحه والثناء عليه وعلى حسن خصاله وكرمه وعدله وشجاعته، لكن لم يدم الحال عندما لم يعجب المتنبي عطاء كافور الإخشيدي، وتحول إلى النقيض دون أن يرف له جفن أو يضعف له تعبير أو يندم على تلونه، وبدأ في هجائه على شكله ولونه وطباعه وبخله ووعوده الكاذبة في قصائد هجاء ما زالت تتداول إلى الآن، وأحياناً تقال بطريقة مضحكة رغم ما تحمله من صفة ذميمة من تناقضه أو ضعف قيمه وتلونه السريع لمصالحه المالية وأطماعه الدنيوية، وهي من أشهر العلاقات التي تحولت من المدح والثناء والتمجيد إلى الهجاء والذم والتندر والوصف بأبشع الصفات، وهي قصة تتكرر رغم الفارق الزمني لحدوثها، فنشهدها ونعايشها في حياتنا من تلوننا أو تغيرنا، تحرِّكنا المصالح والأهواء والعصبية والاستفادة المالية، علماً أن التغيير في الآراء ظاهرة طبيعية تحدث نتيجة عدة عوامل مؤثرة من اتساع المعرفة والخبرة والتقدم في السن وتغير الاهتمامات، لكن ما يؤلمنا ويصيبنا بالإحباط عندما يكون التلون والتغير في الآراء والأحكام قائماً على مصلحة الفرد دون اعتبار أو مراعاة لدينه ووطنه أو متابعيه من الناس والمحبين له، وهذا نشهده الآن، خاصة ما يقوم به رواد التواصل الاجتماعي والإعلاميين والمحسنين عندما يغلِّبون المصلحة الشخصية لهم على حساب الحقيقة والعدل وأمانة النقل، فشاهدنا رسائل وأفلام فيديو تتداول لأشخاص وهم يساعدون أو يستهزئون بكبار السن في عائلاتهم أو بمحتاجين سواء كانوا كباراً أو أطفالاً؛ من أجل زيادة عدد المتابعين ومن ثم الاستفادة المالية من إعلانات، علماً أن الصراع في النفس البشرية بين الحق والمصلحة الشخصية موجود منذ الأزل، ولكن دون أن يتغلَّب الحق والعدل والأمانة على الفائدة المادية فقط مجرد متبعين للمنهج الميكافيلي القائل «الغاية تبرر الوسيلة».
ليس مطلوباً أن نكون كاملي الأوصاف ومثاليين في كل حياتنا، لكن أضعف الإيمان أن نجتهد ولا نقبل أن تكون رسائلنا لا تقبل الحياد والفائدة الشخصية فيما تخص ديننا وأوطاننا وقيمنا، فيفترض أنها غير قابلة لهذا الصراع والتلون والحياد، ونراجع سلوكنا وآراءنا ونتزود بقليل من المنطق والعدل والحق والأمانة.
قصة المتنبي وتلونه قصة قديمة متداولة وتتكرر في الإعلام والإعلاميين وتلونهم في مهاجمة الأوطان والبلدان، خاصة عندما تنهض وتبدأ في العمل لقوة اقتصادها ورفاهية شعبها وتنميته، لذا قيِّم كل ما يصلك من قصص وحكايات ومواضيع إعلامية وضع نصب عينيك أن في كثير منها يغلبون المصالح المادية والمناصب في سبيل تضليل أو تشكيك الناس في دينهم وأوطانهم وقيمهم، فأضعف الإيمان لا تنقل ما يسيء لدينك أو وطنك حتى ولو من باب التحذير، لأن تداوله يحقق ما يصبون إليه من زعزعة وتشكيك في دينك ووطنك وقيمك.
فلنحذر من الكلام المعسول والمنمَّق، ولنتذكر جميعاً عند متابعة أي محطة تلفزيونية أو إعلامي أو مؤثر ما قام به المتنبي عند الحب أو في البغض لكافور الإخشيدي والذي كان يتحرك وفق مصالحه وفائدته الشخصية ووظف شعره لخدمة نفسه.