د. عيد بن مسعود الجهني
الموظف العام كل من ارتبط بشكل دائم بالإدارة ويسهم في إدارة مرفق عام، ويخضع لنظام قانوني وله حقوق وعليه التزامات تفرضها المصلحة العامة.
وقد عرفت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في المادة الأولى منها الموظف العمومي بأنه (أي شخص يشغل منصبًا تشريعيًا أو تنفيذيًا أو إداريًا أو قضائيًا لدى دولة طرف، سواء أكان معينًا أم منتخبًا، دائماً أم مؤقتًا، مدفوع الأجر أم غير مدفوع الأجر بصرف النظر عن أقدمية ذلك الشخص).
ونرى في هذا التعريف توسعًا قانونيًا، وقد يقصد منه حماية المال العام، من استغلال أي موظف لنفوذه مهما كانت مرتبته الوظيفية دائمة أو بعقد لمدة محدودة أو حتى كان أداؤه لعمله دون أجر، ويشمل التعريف الموظف الذي تم اختياره بالانتخاب، ونحن نؤيد هذا التعريف، لأنه يحمي المال العام بشكل أكثر وضوحًا لشموله جميع من تقلد عملاً داخل الدولة.
والموظف العام قد يستغل الفراغ النظامي أو ضعف إجراءات الإدارة والرقابة السابقة أو اللاحقة على مسؤولياته الوظيفية، إضافة إلى بروز آفة البيروقراطية والترهل الإداري الأمر الذي يسهل له استغلال نفوذه الوظيفي لتحقيق مكاسب شخصية له أو لغيره.
واستغلال النفوذ الوظيفي من أمثلته اتجار الموظف العام بنفوذه أو بأخذه أو طلبه أو قبوله مقابل أو فائدة ما من صاحب المصلحة، نظير حصوله أو محاولة حصوله على مزية معينة مادية أو وظيفية أو غيرها من السلطة العامة لفائدة طالب الخدمة أو الواسطة باستخدام الموظف العام نفوذه لتمكين طالب الخدمة من تحقيق ما يريد.
وفي تعريف مبسط لاستغلال النفوذ فإنه يعني استفادة الموظف العام من السلطة التي منحتها له وظيفته بطريقة غير مشروعة.
كما عرفت بأنها استخدام الموظف النفوذ أيًا كان مصدره لدى جهة عامة أو خاصة، للحصول على منفعة مادية أو معنوية أو أي غاية معينة مقابلاً لمصلحة الفاعل أو الغير.
وهذا هو أحد مضامين الفساد الإداري والمالي بعينه، فالمنصب بصلاحياته الإدارية والمالية الواسعة والبيروقراطية العفنة يمنح صاحبه السيطرة على الأنشطة ومقدرات القطاع العام ويتصرف بأمواله فسادًا أو رشوة أو محسوبية من خلال ترسية المناقصات على شركات وأفراد لا يستحقونها وليسوا مؤهلين لها، على سبيل المثال لا الحصر.
هذه الصلاحيات تغري بالفساد خصوصاً مع قصور نظام المحاسبة والرقابة السابقة واللاحقة على المصروفات الحكومية والتدقيق وغياب قوانين الثواب والعقاب (أي قانون من أين لك هذا)، فغيابه يفتح الباب مشرعًا للفسدة لإساءة استغلال السلطة الوظيفية للكسب الحرام، ناهيك عن تواضع أداء السلطة القضائية، وضعف الإدارة في الأجهزة الإدارية والمالية والاقتصادية.
هذا الاستغلال للنفوذ يمثل أحد الأشكال القبيحة للفساد الذي يواجه التنمية الإدارية المستدامة ويمتد إلى التأثير على النمو الاقتصادي والاجتماعي في الدول، ويعمق من ضعف دورة الاقتصاد والاستثمار داخل الدولة.
إذًا الموظف العام إذا كان يتمتع بنفوذ حقيقي واستغله استغلالاً بشعًا فإن الأثر الذي يتركه تكون آثاره السلبية على الاقتصاد والتنمية والتطور الاجتماعي والإداري أكبر أثرًا، فهو يأخذ على عاتقه فساد الذمم والكسب غير المشروع، وفي هذا إخلال في مبدأ المساواة أمام مرافق الدولة لكل مواطن يعيش على أرضها.
فمتلقي الرشوة مثلاً جريمته واضحة وفساده بيِّن، مستغلاً نفوذه، فهو يتلقى المقابل لقيامة بعمل من أعمال وظيفته أو الامتناع عن القيام به، وهذا استغلال عظيم للنفوذ الوظيفي معناه الاتجار بالنفوذ لحسابه الخاص على حساب مصلحة الوطن والمواطنين.
وقد يشمل فساد استغلال النفوذ والحصول على الرشوة أكثر من فاعل، فقد يكون الموظف ومقدم الرشوة والرائش (الوسيط)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما).. رواه الترمذي.
المهم أن قضية الفساد الإداري والمالي بكل أنواعه وصنوفه أصبحت ظاهرة علنية في الوطن العربي من خليجه إلى محيطه، وأصبح الثراء الفاحش غير المعروف مصدره لبعض المسؤولين في أجهزة القطاع العام واضحاً للعيان، ولا يمكن لهم أبداً الفوز بهذه الثروات الطائلة من دون استغلال نفوذهم الوظيفي أسوأ استغلال، وهم الذين يشهد الكثيرون بأنهم لم يكونوا يوماً من أصحاب الثروات، ولم يعرف عن آبائهم أو آباء آبائهم أنهم ملكوا يوماً ثروات كبيرة تكفي لشراء منزل متوسط، دعك من القصور واليخوت والطائرات.
وأمامنا جرائم عدة من هذه الجرائم كشفت أسرارها هيئة الرقابة ومكافحة الفساد من خلال قيامها بالتصدي لـ (889) قضية جنائية وتأديبية، تركزت كلها على استغلال النفوذ الوظيفي، اشترك فيها أطراف عدة من الجنسين، منهم الموظفون والموظفات ورجال أعمال ووافدون.. الخ، وهذا يحسب للهيئة التي نشطت بعد أن منحتها الدولة الضوء الأخضر لتعقب مرتكبي جرائم الفساد بكل صوره.
قضية واحدة بلغ رقمها (193.639.535) مليون ريال تمكنت الهيئة من استعادة المبلغ لخزينة الدولة، بل إن الهيئة استطاعت أن تسيطر على مسيرة عصابة كبيرة ترتبط خيوط فسادها ببعضها البعض مما يعقد كشف أسرارها إلا أن العنصر البشري المدرب بالهيئة بتعاونه مع جهات أخرى صار له ما أراد فقد فكك (شيفرة) الفاسدين المعقدة فانتصرت عليهم وأودعتهم سلطة القضاء.
ومسلسل الأرقام الفلكية المنهوبة الذي عاد إلى خزينة الدولة لا يتوقف، (141.989.709) (149.418.972) (110.006.545) ليبلغ مجموعه (595054761) أكثر من نصف مليار ريال كان سيبتلعه عصابة فاسدة، وهو حق مطلق للدولة، لا يستحقه الفاسدون بل لابد من إيقاع العقاب على كل من الراشي والمرتشي والرائش.
إن الفساد ليس ظاهرة جديدة فقد ظهر منذ عهد نبي الله آدم عندما طمع ابنه فيما ليس حقاً له، فطمع في أن يتزوج أخته التي هي من نصيب أخيه، فكانت النتيجة أن سولت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين، ويتبين من قصة ابني آدم حقائق منها:
أن الفساد مصدره الأنانية وحب النفس، وأنه يبدأ صغيراً ثم يكبر.
وأن الفساد خلل في الدين، وانحطاط في الأخلاق.
وأن الفساد لا يراعي وشيجة قرابة ولا أواصر رحم ولا صلة صداقة.
وأن الفساد ظلم صراح لا شك في ذلك.
وأن المفسد مهما تمتع بثمرات فساده فإن عاقبته تكون وخيمة ونهايته رديئة وإنما يحيق المكر السيئ بأهله.
والله ولي التوفيق،،،
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة