د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** هاتفه مهنئًا بجمال مقاله، وحين سأله: أيَّ مقالٍ تعني؟ أجاب: مقال اليوم المنشور في صحيفة «كذا»! فردَّ عليه شاكرًا مؤكدًا أنه لم يكتب شيئًا في تلك المطبوعة بل لم يُنشر له شيءٌ في ذلك اليوم ليس في الصحيفة وحدها بل عبر كل الوسائط، وإذ لم يقتنع المهاتِف فقد جادله طويلًا بدعوى تهربه من نسبة المقال إليه، ولأن المتصلَ ذو قيمة علمية يعتزُّ به وبها فقد سعى إلى إفهامه أن الكاتب الذي أشار إليه ليس هو ولا رابط بينهما سوى تماثلٍ شكليٍّ، ولا يدري إن جاء صمتُه بعد ذلك اقتناعًا أم إعياء حيلةٍ وحلَّ مسايرة.
** مضى على الحكاية زمنٌ تجاوز عقدًا، ولعله كتب عنها في حينه دفعًا للالتباس وحفظًا للحقوق، وربما وُفّق أو أخفق لكنه يستدعي رسائل كانت تبلغه وليست له، وقد تتحول رسائله إلى سواه، وفي مثل بيئتنا نحتاج إلى تمييزٍ وتمايز، ويذكر أن الرقابة كادت تمنع كتابًا لأحدهم لتطابق اسمه الثلاثي مع اسمٍ آخر سبقت بشأنه ملاحظات، بل لقد ادَّعى أحدهم أنه «غيرُه» لتشابهٍ صوتيٍّ، وعلم الـ»غيرُ» بالأمر مصادفةً فما زاد على أن أوصى من خُدع بمزيد تثبت؛ فالادعاءات ممتدة عبر المدى، وهي في الوسائط الرقمية ظاهرةٌ متكاثرة، والأمرُ مرتهنٌ بالمقارنة والمقاربة وانتهاج الشكّ حتى يثبت اليقين.
** نعود إلى الكتابة؛ فالأسلوبُ لا يتصلُ برغبة الفرد بل بإمكاناته، وقد نتفق على أنها نتاجٌ فرديٌ تقود إليه عوامل ذاتية كامنة في عقل الكاتب ولغته وقدراته، وخلال سنوات الطلب المبكرة كنا نتبادل «دفاتر» أصدقاءَ لم يكونوا من المبرّزين في دراستهم لكن أساليبهم عمَرت بالإمتاع والإبداع، وأدهشنا فوق عاديتهم التحصيلية عاديتُهم الثقافية؛ فما كانوا من ذوي القراءة والاطّلاع، وأيقنّاَ أنها الموهبة؛ فالشاعرُ والرسَّامُ والفنَّان يولدون كذلك، والزمن يُتيحُ ويُشيح، والظرف المكاني والمجتمعي يأذنُ باستثمارٍ أو إدبار.
** لم تعد مشكلةُ وقتنا البحثَ عن الأسلوب المبدع القادر على التعريف بصاحبه دون تتبع اسمه أو رسمه فذاك رهانٌ لا يَكسب، بل هو الاستنساخُ المُفضي إلى الاستسهال دون مسؤولية، والتماثل من غيرِ هُوية، وتجاوزُ الفواصل بين السطور والصدور، وربما أسهم التدوير والإعجاب الرقميان في تقليل التميز ومضاعفة مهمّشيه، وراق لبعضنا وجودُ مؤشرٍ بالملل من الشعبوية والنجومية، واكتشافُهم إهدارَها ملكاتِ التفكير والتقدير والمحاكمة والحكم، وفواتُ علمٍ ومعارفَ خلال انشغالهم بذوي الأسطر المبرمجة والمؤدلجة.
** الهُويةُ الكتابيةُ مطلبٌ عسيرٌ لكنه غيرُ متعذر، والاستنساخ الثقافي هو الأشدُّ تأثيرًا في لجم التنوع والتعددية، وهو إيذانٌ بالتلاشي العقلي التدريجي لتكوين مجموعة رؤوسٍ تدورُ وتُدار وتستثير وتُثار، وناتجها دخانٌ أسود يُعشي الذهن ويغشى البصرَ والبصائر، ومن تعنيه حركية الفعل والتفاعل فلن يقبل أن يكون مجردَ رقمٍ ولو كان ذا أصفار.
** من ينتشر يندثر.