د. محمد عبدالله الخازم
كتبت في مقال سابق، نحن عادة لا نقوم بالدراسات على نموذج لا يزال نامياً ومتحركاً وإنما نعود له لاحقاً كحالة تاريخية. ولعلي أتوسع قليلاً هنا وأشير إلى أن هذه معضلة كبرى في الفكر؛ نعتني بالرصد وليس التحليل وبالتباهي وليس النقد وبالماضي وليس المستقبل. من يلاحظ كيف يدرس التاريخ وعلم الاجتماع في مدارس الغرب وفي مدارسنا وجامعاتنا يدرك ما أعنيه، ففي الغرب يدرس التاريخ من خلال نقاش القضايا المعاصرة وطرح تنبوءاتها المستقبلية وفق حيثيات وتجارب الماضي بينما في مدارسنا وجامعاتنا التاريخ هو مجرد رصد للأحداث في الماضي، والمراجع تعتمد على الراصد وميوله الإيدلوجية والسياسية.
وكتداع للفكرة، ربما هناك إشكالية في عدم الفصل بين السياسي والفكري، أو بين المشتغل في الفكر والعامل في مجال السياسة، فالسياسي يرى نفسه مفكراً والمفكر يرى نفسه مجبراً على اتباع خطوات السياسي. بينما التطور العالمي في هذه الميادين يقود إلى الفصل بينهما بشكل ما أو بآخر. السياسي موظف يقوم بمهام وظيفية ذات وصف ووفق إستراتيجية فكرية/ أيدلوجية/ اقتصادية/ يسير عليها وهو عادة يساهم في بناء الإستراتيجية عبر الاطلاع على المخزون الفكري الذي يوفره له المفكرون. هذا ما يقودنا للقول، مثلاً، بأن دستور الولايات المتحدة الأمريكية مقارنة بدول تغير دستورها كلما تغير الزعيم، بناه مفكرون أو ساسة استوعبوا الفلسفة الفكرية المستقبلية فسبقوا العصر ببناء دستور لمستقبل مئات السنين. المفكر يذهب عادة إلى قراءات مستقبلية تمتد قرناً أو عقوداً من الزمن، يحلِّل مادة التاريخ والفكر الماضي والراهن، ليستنبط أفكاراً جديدة للمستقبل يلتقطها الساسة النابهون. بينما السياسي يمتد بصره لفترات أقصر؛ مثلاً، لسنوات أو لعقد أو عقدين من الزمان ويعمل على (التكتيك) الموصل للهدف أو الإستراتيجية أو الرؤية التي أمامه، وأحياناً يكون منحازاً لما فيه مصلحته. بمعنى، هناك تقاطعات بين السياسي والمفكر، لكن هناك مفترقات في آليات التفكير والاستنباط والمخرجات.
في العالم المتقدم، مع تمهين كثير من الأعمال، أصبحت السياسة مهنة ولا يعيب السياسي إن هو استعان بالدراسات الفكرية التي تنتجها مراكز الفكر، ولا يعيبه أن يوصف بأنه سياسي فقط وليس مفكراً. في عالمنا مجرد أن تكون مديراً أو مسؤولاً فإنك تتصور نفسك مفكراً، عاماً أو عضوياً في تخصص ما، بل إن البعض لمجرد ممارسته مهنة معينة يتصور نفسه مفكراً أو ينساق لتصنيف ذاته كمفكر ناسياً أن التقدير له جاء بسبب شهادته أو الخدمة التي يقدمها أو السلطة التي منحت له. وغير مدرك أن من شروط الفكر الحر والمستقل، التخلي عن العقل المهني والفئوي والسياسي. المفكر المتقدم يفترض أن يصل إلى قناعة بأن مهمته إجراء الدراسات وطرح الآراء والتحليلات الراهنة والمستقبلية بشكل مستقل دون مزاحمة السياسي على موقعه والإداري على سلطته الإدارية ودون البحث عن مكاسب آنية تؤثر على توجهاته الفكرية. من أكبر أخطاء المفكر في مجتمعاتنا إحساسه بأن التقدير الوحيد له يكون عبر مناصب إدارية أو سياسية، لذا تجد مزاحمة أساتذة الجامعات والمفكرين على المناصب الإدارية والقيادية وبعضهم لا يجيدها، بدلاً من تركيزهم على بحثهم واشتغالاتهم العلمية الفكرية المتنوعة.