عبدالوهاب الفايز
عندما كتبت المقال الأول من هذه الحلقات عن استثمار آليات العمل الخيري لتجديد حيوية القطاع العام، كنت أعتقد أنها كافية لإثارة الموضوع. خلافاً للاعتقاد السائد، الأمر الايجابي أن الإيمان بأهمية دور القطاع الثالث غير الربحي اتضح أن له كثيراً من المؤيدين والداعمين، وأخص رجال الأعمال وقيادات القطاع الخاص لقناعتهم أنه يقدم خيارًا عمليًا مجربًا بديلاً للتخصيص، بالذات في المجالات الإنسانية والاجتماعية والتعليمية والصحية.
في المجالين الأخيرين أحد قيادات القطاع الخاص قال مستغربًا: (بالله عليك جاوبني: كيف يكون عائد الاستثمار في التعليم والصحة أعلى من عائد البنوك! ما فيه أحد منا يلمس رأسه!)
لا أستغرب تفاعلهم وحماسهم، فالجيل العصامي من التجار الذين عاصروا الظروف الصعبة لبدايات الاستقرار الاجتماعي في بلادنا هم الذين أسسوا الأعمال الخيرية، ودعموا البدايات الأولى لما يعرف بـ(الاستثمار الاجتماعي)، عبر أشكاله التعاونية والخيرية المتعددة والملبية للاحتياجات الأساسية للناس.
التجربة والخبرة الوطنية في هذا القطاع متواصلة وموجودة ومدعومة من البيوت التجارية التي بناها العصاميون. الآن.. الباقون منهم وأبناء من رحلوا، إلى رحمة الله، يواصلون بناء العمل الخيري السعودي، وهذه فرصة للأجهزة الحكومية لاستثمار دوافعهم الإنسانية وتجربتهم الطويلة في بناء المشروعات الاجتماعية التي تحقق الاستدامة والتنوع وتعظم الأثر الاجتماعي والإنساني.
المهتمون بهذا المسار.. وقفت على جوانب حماسهم حين البحث في هذا الموضوع، فقد وجدت مقالات تناولته في فترات ماضية، ومنها مقال الأستاذ مطلق المطلق رجل الأعمال المعروف الذي نشر في الجزيرة، وفيه نرى القناعة والإيمان بأهمية القطاع الثالث وحيوية دوره البارز في (المملكة كإطار جامع يقوم بدوره الاقتصادي التنموي الاجتماعي خارج نطاق البيروقراطية الحكومية كمؤسسات، وبعيدًا عن حسابات الربح والخسارة أو تحقيق العائد المالي فقط).
ويرى الأستاذ المطلق أن لدينا مساحة واسعة لعمل هذا القطاع تستوعب أشكال العمل الخيري والتكافلي والتطوعي والوقفي. ويرى أن (الأنشطة الخيرية غير الربحية تخدمنا في مجالات عديدة مثل تقديم الخدمات التعليمية عبر الجامعات والكليات المتخصصة والمعاهد ومراكز البحث، وكذلك الخدمات الصحية عبر المستشفيات والمراكز الطبية وخدمات الرعاية الصحية والإيواء). ويتمنى تفعيل (الخطوة النوعية التي اتخذتها الدولة مؤخرًا بتأسيس أول مركز وطني لتنمية القطاع غير الربحي في المملكة).
أيضا ثمة مقال لا يقل أهمية للأخ علي بن عثمان الركبان، نشر في صحيفة مال الاقتصادية (28 أكتوبر 2019)، تطرق فيه إلى أهمية بناء رأس المال الاجتماعي، ودعا إلى تنفيذ مستهدفات برامج الرؤية لأجل التقدم في بناء مكونات رأس المال الاجتماعي، وأبدى أسفه لـ(تراجعنا في مؤشر رأس المال الاجتماعي إلى المرتبة 49 بعد أن كنا في المرتبة 26 عالمياً)، ويتمنى بذل الجهود المضاعفة (لمعالجة ذلك التراجع من خلال مختلف الوسائل والجهات المؤثرة للنهوض برأس المال الاجتماعي من جديد وتحقيق أحد أهداف الرؤية).
هذه القناعات بأهمية القطاع الثالث، والقلق على ضعف مساهماته مؤشر وعي إيجابي يُحسب للمجتمع السعودي، وأيضا مؤشر على الحماس والرغبة لدى النخبة لتفعيل روح العطاء الخيري، وتنمية مؤسسات الخدمات الإنسانية غير الربحية. وهذه المكانة الإيجابية تتطلب تسارع الجهود الحكومية لتفعيل دور القطاع الثالث.
الحكومة بيدها إطلاق مشروع خاص يستثمر تاريخ العمل الخيري وقناعة وشغف المجتمع السعودي به، وذلك لتمكين وتنمية مخرجاته عبر برنامج التخصيص والإسناد. نحتاج بناء قناعة المنظومة البيروقراطية لاتخاذ خطوة عملية جريئة لبناء (رأس المال الاجتماعي)، الذي يعد مصدراً مهماً لـ(الثروة الوطنية) الذي ينتج من التشارك والتعاضد وبناء شبكات التعاون التي تحقق الأمان الاجتماعي والنفسي للفئات الضعيفة ماليًا ومهاريًا في المجتمع.
مشاريع الاستثمار الاجتماعي النوعية أداة عملية بيد الحكومة للاستعداد للمستقبل عبر الأنشطة والتفاعلات الفكرية والاجتماعية التي يتبناها ويعمل عليها القطاع الثالث، ويبعثها من القاعدة الشعبية، فلديه المرونة والتخفف من القيود التشغيلية التي تساعده على الابتكار وطرح الأفكار والآراء بدون محاذير صارمة تقتل روح المبادرة والإبداع.