رمضان جريدي العنزي
حزني على أخي (أبا القاسم) مغاير تماماً لأنه يحمل صدقاً حقيقياً في المشاعر، يندر أن يحصل في أي حزن أو رثاء آخر، لقد دفنته بيدي وساويت ضريحه بحنو، مرثاتي هذه تحمل في ثناياها ضرباً عميقاً من الفقد، لا على الفقيد فحسب على الرغم من صدق الفقد ومرارة الرحيل، بل لأن رحيله جاء لي باليتم من جديد الذي بدأ عصفه يهز كياني، لقد بذل لنا الكثير وأعطى وأجزل وتعب، كان لأسرتنا الكبيرة الأخ والأب والظل والمعين، عند رحيله صرت كمن يغرد في الفلاة وحيداً، محاولاً أن أطفئ جذوة اللهيب التي بداخلي، ثمة حزن يخالجني ويقبع في قلبي وبين ضلوعي لا أستطيع الانفكاك منه برهة واحدة، أحاول تدريب روحي على فقده، وعلى اعتياد رحيله، كما لو أنه طقس نوم وصحو، أو جرح عتيق غائر تحاذر أن أنكأه، انطويت على ما كنت أوقدته من وجد، كما ينطوي جبل قديم على صخره وترابه، دائماً إذ لم أجد من أؤاخيه، أؤاخي نفسي وأدعو ألا تخذلني، أنا بعده مثل عازف غريب يبحث عن جمهور غريب، أحتضن الليل قصيدة لا تنام، أحاول أن تقبل الحياة حلمي، لكن قلبي يرتعش، في مخيلتي أشياء جدائلها طويلة، أنا في ديمومة تعويضية هائمة لها شكل الانفصال، حائر تقاسمني العزلة، الموجودات التي أتعامل معها هذه الأيام تجلب لي الوحدة، وتجعلها شريكة لي، أحاول الانشغال مع الذات حصرياً، قوة الاستقطاب لدي تعادل قوة الخسارة، استقطابي خاسر شامل وفاعل، تعودت التفكير وحيداً، تعودت الألم الذي يصل بي حد المأساة، أصل في مخيلتي دائماً إلى نقطة اللاتعويض النهائي، صرت كالمغناطيس يجذب العناصر المتآخية لذاته من الحزن، الوحدة والخسارة والفقد تغطي على روحي وعظمي وهيكلي، تسودني حالة الانكسار حتى في حيازة اللذة، أحاول أن أستسلم للفرح، لكنه يهجرني بقسوة، الفرح معي غير عادل، وسلبي في عطائه، جربت عدة ذوات وليست ذات واحدة فحسب، وعدة أشياء وليست شيئا واحدا، الخسارة عندي عظيمة حين يصبح الفقد ركيزة، أملك نفس تراجيديا المتنبي
وحيدٌ مِن الخُلان في كلّ بلدة
إذا عظم المطلوبُ قَلّ المساعدُ
أنا أتوجد المسافة في فقدان الخليل السند، توجدي مضمر مع حلمي المجهض، أحاول طرد الحزن، فيغدو التواصل مع المأساة مرعباً، خسارتي اجتمعت مع المكان الثابت والاستقرار المنسي، لست تشاؤمياً، لكن غياب الأخ دثرني باليتم، حتى اكتسبت وجوده، الوحدة عندي عوز دائماً إلى العزلة، التراب والرماد باهتان، لكنهما صارا عندي مثل قصيدة جميلة في امرأة حسناء، الخصب عندي تحول إلى جدب والنبات إلى تبن، والحطب إلى رماد، أحاول تحرير الكلام حتى أجعله واضحاً كما في لوحة (الجورنيكا) (لبيكاسو)، الوجوه البشرية وإن تكن مذعورة في اللوحة مع رؤوس الحيوانات تتكلم مقاومةً الصمت وغاية فرضه درء الصمت، لقد أطلقت سراح كلامي من سياجه الفظيع، وبئره العميقة، لا تسألني بعد عما أنا فيه، لأن يقيني يظل حارساً لنفسي، وكثيراً ما قادني هذا اليقين إلى الباب، أو إلى الطريق إليه، لم أندم، ولم أيأس، كل ما في الأمر إنني سئمت واستوت لدي الأمور وتشابهت، ما من شيء يحضني على الفرح، لكن هناك أشياء كثيرة تغريني نحو تذكر أخي (ابا القاسم) بشكل أبدي، وبحنين لافت ومغاير.