عبده الأسمري
منذ أن اعتنقت فعل «الكتابة» انعتقت من روتين «الرتابة» التي تلزمني بالمواظبة على السير في طريق واحد ودرب محدد مما جعلني متمرداً على كل أسوار التكرار.. فظللت أكتب خارج صندوق «الالتزام» الوظيفي حتى عندما كنت مديراً للتحرير في عدة صحف.. فما إن انتهي من توقيع قلمي «الأخضر» لإجازة المواد و»الأحمر» لمنع التجاوز حتى أكتب بروح طليقة متحررة من قيود «المسؤولية» ومتجردة من جمود «المساءلة»..
الكتابة نوع من أنواع «الرفاهية» التي تصنع «الإبداع» الذي تجهضه كثيراً محددات «الساعات» وموجهات «الأوقات» وتوقفه مسارات «التقيد» ومدارات «الدوام».. الأمر الذي دفعني أن اقتنص اللحظات للقبض على كل «فكرة» تجعلني أخوض الكتابة كهوية وأمارس التعبير كغاية وأتصيد الطقوس للوذ بهواية تهيئني أن أعيش دهرين أحدهما للثبات وآخر للتحول ليكون رفيقي القلم وميداني الورق ومنصتي «المقال» ومحفلي «المعرفة»
في كل محطات العمل الصحفي كنت وسأظل مائلاً نحو الكتابة كعشق أزلي بدأت الارتباط به وأنا أختلس دقائق الفسحة المدرسية في المرحلة المتوسطة لقراءة المجلات والصحف المترامية على طاولة المعلمين.. وما أن يحين جرس العودة لمقاعد الصف حتى استأذن رائد الفصل وقتها في اقتصاص مقال أعجبني أو موضوع جذبني لأخبأه بين كتبي للتلذذ بقراءته بعد يوم مدرسي مكتظ بالتشابه. الأمر الذي دفع مدير المدرسة حينها أن ينشىء جماعة للصحافة رغم أنها كانت في مخيلتنا آنذاك «معجزة» لا ينالها إلا ذو حظ عظيم.
ما بين الكتابة والرقابة خط رفيع يصنعه «السلوك» الإنساني و»المسلك» المهني مما حتم علي احترام الخطوط الحمراء التي طالما أوقفتني كثيراً فلم استطع العودة إلى الوراء لمربع أمن عنوانه «الصمت» ولا تجاوزها فاصطدم بمقص الرقيب وأقرب مثال إليه اتصال مقتضب من رئيس تحرير هذه المطبوعة العملاقة أو رسالة بريدية مفادها «المقال غير صالح للنشر» وعندما يأتي التوجيه من «الرمز» خالد المالك فهو «نظرية» مهنية تجعلني أدرس مع نفسي تفاصيل الرفض ومفصلات بعد النظر في ذلك التي طالما شرحها لي فوجدت نفسي تلميذاً يرتهن للسمع والطاعة أمام خبير عريق في بلاط صاحبة الجلالة وعلمت حينها أن الحماس في كتابة الرأي والانغماس في توجيه المعنى قد تتحول إلى «جرأة» تنقلنا للخوض في الممنوع.. فظللت حائراً بين سلطنة «التجاوز» وسلطة «الإجازة» حتى تعلمت أن بعض المقالات تظل حديثاً لا يعلن إلا للنفس وحدثاً لا ينتهي إلا بالمنع..
الرقابة على القلم فعل حميد. قد يشكل غيابه أو التهاون في تطبيقه «حرية» تسبب «هواجيس» عاجلة أو «كوابيس» آجلة، لكن العزاء الأدبي يكمن في اللعب بين حدي «الموضوعية» و»الشفافية» وإن لامس الأمر الخطوط الحمراء فإن ثمة «التماسا» تحذيريا يجعل خطوة الكتابة اللاحقة أكثر حذراً وأشد حيطة..
تبقى كتابة المقال مهمة «سامية» تقتضي الحفاظ على «مساحة» مأمونة بمنأى عن «المداهنة» المخجلة أو «المكاشفة» الجريئة.. للوصول إلى ثبات في التروي وإثبات في الرأي والحصول على إنصات من المتلقي وأنصاف من المعني.
الكتابة في مجال الرأي خارطة للتوجيه تستمد خطوطها من «صوت» الشارع وصدى «الناس» وسلطة للتغيير تنال حظوظها من «أمانة» الكلمة و»نزاهة» الرؤية.. وحينما تخرج من قالب «النقد» وهيكل «الانتقاد» لتشرع في رصد عباراتها ووصف ملكاتها في متون «الأدب» فإنها ستتحول حتماً إلى فضاء فاخر تسطع فيه «نجوم» المفردات وتعلو وسطه «أهداف» الإنتاجات.
ما بين الكتابة والرقابة تواؤم بين المثير والاستجابة لإنتاج سلوك مشترك في صناعة معاني الحياد وصياغة أصول التوازن لرصد «الظواهر» وتشخيص «المشكلات» وترتيب الحلول في قوالب «مهارية» تتخذ من الإخلاص للمهنة عنواناً عريضاً تكتب تحته العديد من التفاصيل «الغائبة» والفجوات «المغيبة»..
للكتابة حس يصنع منطلقات هذه الوسيلة «العظيمة» ويؤسس انطلاقات هذه الرسالة «الشريفة» لجني ثمار «المهمة» ونثر عبير «النصائح» ونشر أثير «التوصيات» وللرقابة «أحساس» يظل سراً بين الكاتب وحروفه قد يأتي مفاجئاً أو متوقعاً أو أكيداً .ليبقى الرهان في توظيف «الفكر» والارتهان إلى توجيه «الرأي».