عبدالمجيد بن محمد العُمري
العقيلات رجال من أهل القصيم امتهنوا التجارة بينها وبلدان العراق والشام وفلسطين ومصر، وقد امتدت تجارتهم منذ مدة طويلة تسبق قيام الدولة السعودية الأولى وفقاً للوثائق المتوافرة عنها، وكانوا على علاقة حسنة مع الدولة السعودية الأولى والثانية كما وقفوا مع الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- في مرحلة التوحيد ومرحلة البناء.
ولقب العقيلات لم يطلقه أهلها على أنفسهم أو من أهل نجد بل أُطلق عليهم من قبل المتعاملين معهم من خارجها، ولم يكونوا أهل عناية بالتوثيق لتاريخهم وأخبارهم ومسيرتهم، وقد تصدى بعض أبنائهم فيما بعد لهذا العمل التوثيقي، فيما دونت مراكز الأرشيف البريطاني والفرنسي أخبارهم وتجارتهم وأبرز رجالاتهم، كما عني بهم بعض رجالات الثقافة والأدب في البلدان التي تعاملوا بها، ومما ذكرته الوثائق عن أخبارهم وسيرتهم أنهم عاشوا كمجموعات متجانسة حتى اعتقد البعض أنهم يرجعون إلى نسب واحد (عقيل) لما رأوه من التجانس والتقارب والحمية والتلاحم والتعاون والتكاتف وكأنهم تحت لواء واحد وما ذلك الاعتقاد بصحيح. وكانت المخابرات البريطانية قبل استعمارها للعراق وبلدان الشام وفلسطين ومصر ترصد تجارتهم وتحركاتهم، ومما ذكرته التقارير الموثقة في المتاحف البريطانية ما نصه: (إن العقيلات من أهل نجد ومن القصيم بصفة خاصة)، كما تعرفهم بتقارير أخرى بقولها: (إن العقيلات ليست قبيلة ولكنها منظمة لها طبيعة الرابطة أو الهيئة أو التجمع حول تنظيم معين وليس لهم ارتباط بقبيلة عقيل القديمة في الشمال)، وفي تقرير آخر من الجهة نفسها يقول التقرير: (للعقيلات زعيم في بغداد وفي الشام وفي مصر، وإن شيخهم من مواطني بريدة القاطنين في هذه البلدان وتنظيم الجماعات تحت رايته ويحكم التجار إذا وقع بينهم اختلاف).
وكان أهل عقيل أو العقيلات منظمين في رحلاتهم ومنظمين في إقامتهم بالمدن التي يسافرون إليها، وكانوا محافظين على دينهم وأدائهم لصلاة الجماعة، وعلى الرغم من أنهم يسافرون لمجتمعات غير محافظة فلم يعرف عنهم الرذائل أو السفاهة، فهم محافظون على سمعتهم في التعامل وفي البيع والشراء، وكانوا حريصين على أن يجتمعوا في مكان واحد عقب الفراغ والانتهاء من بيوعهم، وكانت لهم أسواق معروفة في الشام (الميدان)، وفي مصر (بلبيس)، وفي العراق منطقة بالكرخ تسمى (صوب عقيل)، كما عهد عنهم حرصهم على تمسكهم والتزامهم بالزي العربي الأصيل أينما حلوا، وحبهم للظهور بالمظهر اللائق من خلال لبسهم الثياب والعقال العادي والمقصب في كل الأوقات والمناسبات، بل إنهم أوائل من جلبوا العقال إلى نجد، وكانت تجارتهم ترتكز على الأبل والخيل العربية ولوازمهما وما ينتج من السمن والصوف يسافرون بها ويجلبون البضائع المتوافرة في البلدان المذكورة.
وحين انطلقت الدعوة السلفية المتجددة في نجد ونصرة الإمام محمد بن سعود لها وتأييده لجهود الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمهما الله- كان لرجال العقيلات وعلى مدى الزمن جهود بارزة في نصرة الدعوة وتأييدها بل والذب عنها بالنفس والنفيس، وليس بغريب على «العقيلات» التدين والتمسك بالعقيدة، فأهل بريدة اشتهروا بذلك من قديم ويعود الفضل بعد الله لدعوة المجدد الإمام محمد بن عبدالوهاب ثم تبني الأمير حجيلان بن حمد من آل أبو عليان -رحمه الله- لهذه الدعوة ومناصرته لها والقتال لأجلها والدفاع عن أئمتها من آل سعود، كان الأمير حجيلان بن حمد مهيباً، طوَّع القصيم، وأخضع حائل، وأخذ البيعة للإمام عبدالعزيزبن محمد بن سعود، وطوَّع البوادي كذلك لحكم السعودية، وكثرت غاراته حتى وصل حدود كربلاء في العراق والحماد في الشام، كان الأمير حجيلان -رحمه الله- من أشد الناس حمية لأهل بلدانه مع محبته للدين وشدة نصره له ولأهله.
ومن أبرز جهود العقيلات في نصرة الدعوة تصحيح المفاهيم المغلوطة عن الدعوة السلفية مما علق بذهن الوجهاء والعوام من تشويه بعض المعادين للدعوة وإيضاح الحقيقة لهم، ومن القصص والمواقف المشهودة أن العقيلي سليمان بن عبدالله الحسون آل أبو عليّان - رحمه الله - دخل مسجداً في دمشق فوجد شيخاً يقرر أمراً خاطئاً في العقيدة فجلس يناظره ويناقشه، فرفع أمر العقيلي الحسون إلى شرطة دمشق فسجن، فشفع له العقيلي الشيخ محمد البسام -رحمه الله- بوجهاته لدى المسؤولين بالشام فخرج، كما تبنى بعض رجالات العقيلات الكتابة والتأليف في هذا الجانب إلى جانب مجالسة بعض العلماء وتزويدهم بالمعلومات الحقيقية عن الدعوة، ولم تقف إفادتهم على أهل تلك البلدان فحسب بل حتى لمن وفد إليها، وممن شهد لهم بذلك علامة العراق الألوسي والشيخ علي الطنطاوي والشيخ الشاويش وابنه زهير وغيرهم كثير، يقول العلامة شعيب الأرناؤوط - رحمه الله:
»قدمنا من ألبانيا ونحن أحناف وصوفية، فما عرفنا السلفية إلا من هؤلاء»؛ يعني: العقيلات، كما أثنى عليهم عالم المغرب تقي الدين الهلالي حينما قرأ مجموع ابن رميح.
وممن برز في الرد والتأليف الشيخ السفير فوزان السابق وله كتاب، أسماه «البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج مختار»، طبع بعد وفاته، في مجلد، يرد به على مطاعن وجهها مختار بن أحمد المؤيد العظمي، إلى حنابلة نجد في كتابه «جلاء الأوهام عن مذاهب الأئمة العظام - ط»، قال فوزان في مقدمة الرد عليه: كان حقه أن يسمى «حالك الظلام بالافتراء على أئمة الإسلام»، وكانت دار الشيخ فوزان لسابق في بلاد الشام ومصر ملتقى للعلماء والمشايخ والمفكرين، وكان في جلساته مهتمًا بتوضيح منهج ودعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، كما عني بطباعة العديد من الكتب السلفية ومناصرة المشايخ السلفيين في مصر، وحين تأسست مكتبة بريدة أهدى لها مئات الكتب، وكذلك الشيخ عيسى بن رميح -رحمه الله- الذي وقف كُتُبًا عديدة على طلاب العلم ببريدة جلبها من الشام وغيرها من البلاد التي كان يسافر إليها مع عقيل، وساهم في طبع عددٍ من الكتب أيضًا، ومنها مجموع ابن رميح، وقد طبعت على نفقته الخاصة ووزعت في بلاد الشام وفلسطين ومصر علاوة على نجد والحجاز، وذكر الشيخ تقي الدين الهلالي أنَّه تأثر به وبجهوده.
وإلى جانب دعم العلم وأهله فقد حرصوا على تعليم أبنائهم في المدارس المتقدمة بمصر والشام وعلى يد طلبة العلم فيها، ولذا كان أبناء العقيلات بحكم تعلمهم وممارستهم العملية من أوائل من ساهموا في العمل الحكومي وفي خدمة الدولة مع المؤسس الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- ومع أبنائه البررة -رحمهم الله- فتجدهم في دواوين العمل الإداري والمالي والدبلوماسي والعسكري.
كما بذل العقيلات جهودهم الخيرة في بناء المساجد والمدارس الملحقة ببعضها ومن ذلك؛ مسجد ومدرسة شيخ العقيلات ببغداد، والذي بناه الشيخ سليمان الغنام -رحمه الله- عام 1252هـ، ومما يؤسف له أنه قد حولته المليشيات الشيعية أخيراً إلى حسينية، ومن المساجد التي بناها العقيلات مسجد الخنيني في العراق وتحديداً بالكرخ، ويعتبر من أقدم المساجد بالكرخ ومعلم للسنة هناك، وقد بناه عبدالله بن صالح الخنيني -رحمه الله-، وهو أحد أكبر أهل نجد وعنيزة وتكفل ببنائه سنة 1292هـ، ونقش أهالي الكرخ على جدار المسجد أبياتًا تقول:
وفق الله (أبا صالح)
لكل ما فيه يقام الهدى
ودمت عبدالله في نعمته
طيبةٌ ترغم أنف العدى
بنيت بالكرخ لنا مسجداً
ما حله المجرم إلا اهتدى
كما قام المحسن محمد الرواف عام 1145 هجريه ببناء مسجد في الزبير، وهي منطقة تجمع لأهل نجد عمومًا، وطالما ورد الحديث عن هذه الأسرة الكريمة العريقة فلا يفوتنا الحديث عن خليل الرواف -رحمه الله-، وقد ألف كتاباً عن حياته، سرد فيه رحلاته مع العقيلات ورحلته إلى أمريكا وزواجه من أمريكية، وعمله إمام مسجد ومدرسًا وداعية أسلم على يديه أكثر من 1300 نفس، وذكر أيضاً التحاقه بالجيش، وكذلك عمله في الإذاعة والصحافة والتمثيل، ولقائه بأبنه نواف بعد انقطاع دام أكثر من 4 عقود.
ومن جهود العقيلات وآثارهم في نشر للعقيدة الصحيحة ونبذ الخرافات وبناء المساجد ومثال ذلك ما قام به العقيلي محمد بن حمود الضالع التويجري ببناء مسجد في حلب عام 1300هـ، كما بنى العقيلي علي بن عبدالعزيز الخضيري في العراق مسجداً عرف باسم مسجد الخضيري، في محلة الكوت، وهناك مساجد أخرى لا يتسع المجال لذكرها، وحينما أفاء الله عليهم بالمال والثراء قاموا ببناء المساجد في بلدانهم، ولم يذخر رجالات العقيلات في تعليم أبناء البادية أمور دينهم وقضاء مشكلاتهم حينما يمرون بديارهم ويقضون عندهم بعض الوقت فلم يكتفوا بالبيع والشراء معهم بل أسهموا في تعليمهم الدين وتنبيههم وتحذيرهم من بعض المخالفات الشرعية. هذه بعض مآثر هؤلاء الرجال وسيرهم، وهناك جهود تُذكر فتُشكر لمن قاموا بتدوين بعض قصصهم كفهد المارك في كتابه من (شيم العرب) وناصر العُمري في كتابه (ملامح عربية)، وإبراهيم المسلم في كتابه (العقيلات) - رحمهم الله جميعاً. وأخيراً وليس آخراً جهود أبناء الوهيبي بدر وعبداللطيف وجهودهما في التوثيق المتميز عن أخبار العقيلات ومسيرتهم الحافلة، والأخير توج ذلك بمتحف متميز يعد من نوادر المتاحف الخاصة في العالم العربي. وبقي أن أختم بالإشارة إلى أن هناك جهودًا خاصة يبذلها الباحث الشيخ وليد العبدالمنعم في استقصاء هذا الموضوع عن (أثر العقيلات في نشر العقيدة السلفية) ونحن بانتظار خروج بحثه.