لقد كان يوم الثلاثاء 13 - 1 - 1442هـ الموافق 1 - 9 - 2020م يومًا تاريخيًا للغة الضاد، ففي هذا اليوم وافق مجلس الوزراء السعودي الموقر برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- على إنشاء مجمع الملك سلمان للغة العربية، وهذا المجمع ليس بدعاً في جهود المملكة في خدمة اللغة العربية، بل هو حلقة في سلسلة طويلة من الجهود المتواصلة والحثيثة في هذا المجال على الصعيدين الداخلي والخارجي، وكلها تصب في خدمة اللغة العربية باعتبارها لغة الإسلام ولسان الوحيين، ولكون المملكة مهبط الوحي وموئل اللغة، فعلى الصعيد الداخلي توجد في كثير من الجامعات السعودية كليات وأقسام لدراسة اللغة العربية، كما تضم معاهد ومراكز لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها من أبناء الدول الإسلامية والأقليات المسلمة، حيث تستقبل فيها كل عام أفواجًا من الطلاب على منح دراسية، وتوفر لهم المكافآت والمسكن والمأكل والمشرب وتذاكر السفر من بلدانهم وإليها، ويواصل كثير منهم دراستهم في كليات الجامعات بعد تخرجهم في هذه المعاهد والمراكز، كما تستقطب الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة أعدادًا كبيرة من الطلاب المسلمين من كافة دول العالم على منح دراسية، وتوفر لهم كل ما يلزمهم إلى أن يتخرجوا فيها ويعودون إلى بلدانهم دعاةً ومدرسين ومترجمين وغير ذلك من الوظائف التي تحتاجها بلدانهم. بل إن بعضهم تولى مناصب كبيرة في بلاده، وبعض آخر صاروا سفراء لبلدانهم في الخارج، وذلك بفضل الله ثم بفضل ما قدمته لهم حكومة المملكة. كما قامت بعض الجامعات من خلال معاهد ومراكز تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها الموجودة فيها باقامة دورات مسائية؛ لتمكين الراغبين في تعلم اللغة العربية من موظفي الجهات الحكومية والشركات من المسلمين وغير المسلمين، الذين لا تمكنهم ظروفهم من تحقيق رغبتهم صباحًا فتتيح لهم فرصة تعلمها في هذه الدورات المسائية، بل إن الأمر وصل إلى أبعد من ذلك، حيث قامت بعض الجامعات بتنظيم دورات لهم في مقر أعمالهم، وبخاصة للعاملين في المستشفيات من أطباء وممارسين صحيين. ولم تقف جهود المملكة -وفقها الله- في تعليم اللغة ونشرها داخليًا على القطاع العام، بل أتاحت الفرصة للقطاع الخاص؛ لينهض بدوره في هذا الأمر؛ فأصدر مجلس الوزراء الموقر قرارًا قبل عشر سنوات يتيح للقطاع الخاص إنشاء معاهد لتعليم اللغة العربية للراغبين في تعلمها من غير الاطقين بها مسلمين وغير مسلمين، وأسند هذه المهمة لوزارة التعليم وشكلت لجنة من جامعتي الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وجامعة الملك سعود، ومن وزارة التعليم، لوضع تصور لهذه المعاهد يشمل ضوابط افتتاحها، والمنهج والخطة الدراسية المحققة لأهدافها، وعقدت اللجنة اجتماعات كثيرة انهت فيها مهمتها على أن يتولى التعليم الأهلي بالوزارة استقبال طلبات الراغبين في إنشاء هذه المعاهد ومتابعة التنفيذ، وفي مجالات أخرى غير مجالات التعليم أمر الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- في عام 1429هـ بإنشاء (مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية) بالرياض، الذي بذل جهوداً ملموسة في نشر اللغة والحفاظ عليها وفي التعريف بها وبخصائصها ومزاياها عبر المنصات العالمية. كما أسهمت المملكة في دعم مجامع اللغة العربية ومراكز البحوث اللغوية الموجودة في بعض العواصم العربية، وفي سياق آخر يتصل بالمحافظة على اللغة العربية، وتأصيل الهوية العربية داخليًا منعت الجهات المسؤولة في المملكة الأفراد والشركات من استخدام أسماء غير عربية، وأكدت على أن يكون الاسم العربي والخط العربي هو الأبرز في لوحات ولافتات المحلات التجارية. وعلى الصعيد الخارجي أنشأت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية معاهد في موريتانيا وإندونيسيا واليابان وأمريكا، وتخرج في هذه المعاهد أعداد كبيرة تعلموا اللغة العربية، وعلوم الدين ونشروها وخدموها، كما قامت بعض الجامعات بدعم عدد من الهيئات والمنظمات بالمدرسين والمدربين للمشاركة في الدورات التي تقيمها هذه الهئيات والمنظمات في مختلف البلدان، وبخاصة في البلدان الإفريقية، ودول جنوب شرق آسيا، وبعض دول أوروبا الشرقية، وجمهوريات الاتحاد السوفييتي سابقا، ومن تلك المنظمات المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (الألسكو)، وإلى جانب الجامعات تقوم وزارة التعليم بإيفاد أعداد من المعلمين كل عام إلى بعض البلدان لتعليم علوم الشريعة واللغة العربية. وما ذكرته من جهود المملكة داخلياً وخارجياً ليس سوى غيض من فيض، وهي بلا شك جهود كبيرة وكثيرة لا ينكرها إلا جاحد أو حاسد وما أكثرهم، فالمملكة مستهدفة وأعداؤها كثر على الرغم مما تقدمه لهم من خيرات ومساعدات:
حسدوها إذ لم ينالوا سعيها
فالكل أعداء لها وخصوم
ولن يضير المملكة نعيق الناعقين، ولن يفت في عضدها إرجاف المرجفين، بل ستمضي في طريقها بخطوات واثقة مستمدة العون من الله في أداء رسالتها التي فرضها الله عليها لكونها حامية الإسلام وحارسة اللغة:
ودع الطنين فما طنينك ضائري
أطنين أجنحة الذباب يضير؟!
وفي خطوة جبارة في مجال خدمة اللغة جاء إنشاء (مجمع الملك سلمان للغة العربية) بالرياض متوجاً لهذه الجهود؛ ليقوم على خدمة اللغة العربية بشكل أشمل وأوسع منطلقًا في ذلك من ركيزتين كبيرتين، الركيزة الأولى تتمثل في كون المملكة خادمة الدين وحارسة اللغة مدركة لمسؤوليتها تجاه دين الإسلام ولغته الخالدة، والركيزة الثانية استشعارها لأهمية اللغة العربية وعظم شأنها، فهي لسان الوحيين ولغة أهل الجنة، والتي خرجت بفضل الله ثم بفضل الإسلام من نطاق الإقليمية والقومية لتكون لغة عالمية، فرضت نفسها على العالم كله مما حدا بكثير من الهيئات والمنظمات الدولية إلى اتخاذها لغة رسمية، ومن أهم هذه الهيئات هيئة الأمم المتحدة، كما أن العالم يحتفل بها سنوياً في اليوم الثامن عشر من شهر ديسمبر، ولكونها من جانب آخر لغة ثقافتنا وحضارتنا العريقة، وتراثنا الضخم الخالد الذي امتد قروناً طويلة، ومما أعطى للغة العربية هذه المنزلة، وجعل لها هذه المكانة أنها أشرف وأقوى وأجمل لغات العالم، لما تمتاز به من مزايا كثيرة بزَّت بها شقيقاتها الساميات وأخواتها اللاتينيات. فشرفها يأتي من كونها لغة أكمل الأديان وأعظمها، ولغة قرآنه وحديثة، كما أن الله قد تعهد بحفظها من خلال حفظ القرآن الكريم، حيث قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فحفظ الذكر حفظ للغته، وهذا شرف عظيم لم تحظ به اللغات الأخرى المهددة بالزوال والاندثار، مما ضمن لها الخلود إلى أن تقوم الساعة، أما قوتها وجمالها فجاءت من تنوع مفرداتها، وحسن تراكيبها وسبكها، ومن أصواتها وايقاعاتها واستعاراتها ومجازاتها، وجميع فنون نحوها وصرفها وبلاغتها، ولو لم يكن لها من التميز على سائر اللغات إلا الترادف والاشتقاق والنحت لكفاها ذلك، حيث أمدها هذا التميز بالسعة والقدرة على التعامل مع جميع المواقف بالصور المناسبة لها، وبالتعاطي مع كل المعطيات الحديثة فهي بحق لغة قوية، واسعة، ثرية، جميلة، شاعرة، وعن جمالها يقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
إنَّ الذي ملأ اللغات محاسنا
جعل الجمال وسره في الضاد
ويتحدث شاعر النيل حافظ إبراهيم عن قدرتها على استيعاب تعاليم القرآن الكريم، وعلى التعامل مع مستجدات العصر من مخترعات وغيرها، فيقول على لسانها:
وسعتُ كتاب الله لفظا وغاية
وما ضقتُ عن آي به وعظاتِ
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلةٍ
وتنسيق أسماء لمخترعاتِ
أنا البحر في أحشائه الدر كامنٌ
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي؟!
وهذا الأمر تناوله كثير من الكتاب والباحثين والمؤلفين والعلماء بشكل واسع مما لا يتسع المجال لذكره.
وسيحقق مجمع الملك سلمان للغة العربية -بإذن الله تعالى- بالتعاون مع إخوانه مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، ومركز الملك عبدالله الدولي لخدمة اللغة العربية، ومجمع الملك سلمان لحفظ الحديث الشريف، سيحقق قفزة نوعية تنهض بالإسلام وعلومه، وبلغته الخالدة وعلومها، ولا شك أن وزارة الثقافة بقيادة وزيرها الشاب النشط سمو الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان، ستبذل قصارى جهدها في إبراز هذا المجمع باعتباره من أهم مبادراتها في تحقيق رؤية المملكة 2030، وستعمل على أن يكون المجمع مركز بحوث وتطبيقات حديثة، مستفيضة للغة العربية وعلومها المختلفة، والترجمة منها إلى مختلف لغات العالم، ومن لغات العالم إليها، ونشر الكتب، وإصدار الدوريات، وتنظيم المؤتمرات والندوات والمعارض، وغير ذلك مما يبرز مكانة اللغة العربية وأهميتها، وتفعيل دورها المحلي والإقليمي والدولي، وأن تكون مرجعية معتبرة في كل ما يتصل بها وبعلومها المختلفة، والعمل على تنظيم الحملات الإعلامية وتكثيفها على جميع الأصعدة، وفي كل دول العالم؛ ليتسنى لجميع الدول إدراك أهمية هذه اللغة، ومكانتها البارزة، وما تبذله المملكة من جهود كبيرة ومباركة في هذا السبيل، وما دام المركز يحمل صفة العالمية فلا بد أن تكون جهوده ممتدة إلى كل أصقاع المعمورة، وما أظن ذلك يغيب عن وزارة الثقافة وقياداتها الواعية، وقد غرد سمو وزير الثقافة عبر حسابه في تويتر، قائلًا: (إن مجمع الملك سلمان للغة العربية شرف ومسؤولية). فأعتقد أن سموه سيعمل مع فريق وزارته على تحقيق مضمون هاتين الكلمتين (شرف/ مسؤولية)، فشرف أن يحمل المركز اسم الملك سلمان، الذي يعتز بلغة الضاد، ولغة الضاد تفتخر به، كما أنه شرف للمملكة أن تضم هذا المجمع وأن تتولى مسؤوليته. كما أنه مسؤولية كبيرة تتحملها المملكة حكومة وشعبًا بصفة عامة، وتتحملها بشكل خاص وزارة الثقافة، حيث إنها المسؤولة عن ذلك، وهذه الجهود كلها تجعل الملك سلمان (خادم الحرمين الشريفين) وخادماً للغة العربية، فأسأل الله أن يمد في عمره؛ ليقطف ثمار غرسه في هذا المجمع وفي غيره من المجالات، وليواصل مسيرة البناء والتطوير المتسارعة التي تشهدها المملكة بقيادته وبمعاونة ساعده الأيمن ولي العهد الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، الذي يبذل جهوداً تطويرية جبارة شملت كل قطاعات الحياة في المملكة، مستهدفاً الرقي بالمملكة إلى أعلى دجات سلم التقدم والتطور، والدفع بها إلى المكانة التي تستحقها لكونها قائدة العالم الإسلامي، وزعيمة العالم العربي، وصاحبة المكان العالمي الأبرز بما تملكه من مقومات اقتصادية وحنكة سياسية، وفقهما الله ومن يرفع الحمل معهما من مسؤولي هذه الدولة المباركة، وسدد على طريق الحق والصواب خطاهم، ولا يفوتني في آخر حديثي هذا أن أنوه بالمصادفة المباركة حيث جاء قرار إنشاء المجمع متزامناً مع احتفاء المملكة بيومها الوطني التسعين، مما ضاعف الفرحة، وأكد على أهمية هذا المجمع، وفي الختام أتمنى لهذا المجمع كل التوفيق والنجاح في تحقيق الأهداف المنشأ من أجلها، وأن يكون منارة إشعاع تنطلق من وسط جزيرة العرب؛ لتملأ أرجاء الكون نورًا يحمل اللغة وينشرها في كل مكان، بارك الله في الجهود المبذولة، وحقق لها النجاحات المأمولة في ظل قيادتنا الحكيمة وحكومتنا الرشيدة.
** **
د. عبدالعزيز بن إبراهيم الفريح - عضو هيئة التدريس في كلية اللغة العربية ومعهد تعليم اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية