د. جمال الراوي
قرأت خبرًا مروّعًا عن أبٍ، يعمل «ميكانيكي» سيارات في بلاد الاغتراب، عاد إلى منزله، فأخبرته زوجته بأنّ ابنه البالغ من العمر عشر سنوات، تخاصم مع أولاد الجيران، وطلبت منه تأديبه، فانهال عليه بالضرب والرّفسِ، وأمّه تنظر إليهما، والولد يستغيث ويبكي، ولاحظت الأم بأنّ ضربات الأبِ تجاوزت درجات التحمّل، ولكنّها لم تستطع إيقافه، والأبُ يرغي ويزبد، وهو ينهال عليه بيديه ورجليه، وإذا بالولد يسقط على الأرض دون حراك؛ فقلّبوه، وإذا به لا يستجيب فأدركت الأمّ بعد فوات الأوان؛ أنّ ابنها فارق الحياة، وسط دهشة أبيه وإخوته الحاضرين!!... ويبدو أنّ الأبّ دخل البيت، وهو في حالة عصبيّة شديدة، بسبب مشكلةٍ حصلت له أثناء عمله، وكانت فرصته الثمينة حتى يُفرِغ الغيظ المكبوت في صدره؛ فأدّت إلى هذه النتيجة المأساويّة!!
«سوف أُخْبِر أباك حتى يؤدّبك»؛ مقولةٌ تًردّدها بعض الأمهات على مسامع أولادهنّ؛ جعلت من الزوج شرطيِّ البيت، لا دور له سوى ممارسة العنف والعقاب مع أولاده!! وأعطته الأمِّ هذا الدور البائس؛ ليس له من وظيفة سوى الردْع والعقاب، وكأنه هيئة تنفيذيّة، يقع تحت سلطة المرأة القضائية!!... وهذا خلطٌ عجيب للأدوار والقوامة، ودلالة على اضطرابٍ شديد في بعض الأسر غير المُستقرّة وغير الآمنة!!... وكثيرًا ما تتهادى إلى المسامع، من خلال شبابك التهوية والمطابخ، أصواتُ هؤلاء الآباء، والمليئة بالسباب والشتائم، وهم ينهالون بالضرب على أولادهم؛ الذين يتصايحون ويبكون من شدّة السياط التي تنهال عليهم.
ها هو أَنَس بْنِ مَالِكٍ، رضي الله عنه، يقول: (خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ، لِمَ صَنَعْتَهُ، وَلا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ، لِمَ تَرَكْتَهُ)، لا شكّ بأنّ الفرق شاسعٌ بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين بعض آباء اليوم!! واختلاف المنهج في التربية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين بعض الآباء؛ ليس مردّه جهل الآباء وقلّة معرفتهم بالطرق الصحيحة في التربيّة!! وليس السبب كثرة الضغوطات المالية والاجتماعيّة التي يعاني منها هؤلاء الآباء!! وليس سبّبها كثرة الالتزامات والمسؤوليات!! فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر منهم ابتلاءً وكُرْبَة وعُسْراً!!
بعض آباء اليوم؛ لا ينقصهم معرفة الأساليب الصحيحة في تربية أولادهم، وليس هناك من حاجة لإخضاعهم لدوراتٍ حتى يتعلّموا كيف يقودوا دفّة البيت!!... ما ينقصهم هو أنْ يهذبّوا أنفسهم ويؤدبوها قبل أنْ يؤدبوا أولادهم، وأنْ يتعلموا الرزانة والهدوء في بيوتهم، وأنْ يتكلموا بكلمات لطيفةٍ ومُهذّبة أمام زوجاتهم وأولادهم، وأنْ يستروا عيوبهم ولا يجلبوها معهم إلى أهليهم!!... ويكفيك النظر إلى طباع وعادات هؤلاء الآباء، وهم خارج بيوتهم، حتى تعرف كيف هي حالهم داخلها!!
عقاب الأطفال بالضرب؛ كتبَ عنه كثيرٌ من الباحثين، ومعظمهم يستنْكرونه ويرونه غير مُجدٍ ولا نافع، ويترك آثارًا نفسيّة على الأطفال، ولا يفيد في تقويم سلوكهم، وهو دلالة على وجود نقصٍ وعدم إدراك لدى المربيّ بأنّ للطفل شخصيّة؛ حتى وإنْ كانت في طور البناء والتشكّل، والطفل يدافع عن شخصيته، ولا يرتضي أنْ يعتدي عليها أحدٌ، ولا يقبل أنْ يكون مُهانًا أمام أقرانه وإخوانه؛ بينما الضرب والزجر والتأنيب يخذل هذه الشخصيّة ويجعلها عدوانيّة وينمي فيها روح الثأر والانتقام، وقد يُصبح الطفل انعزاليًا خَشية الهوان الذي لحقه، فيضطر إلى الابتعاد والانزواء حتى لا يُعيّره هؤلاء الذين يشهدون عقابه ويرونه؛ عند ضربه وتوبيخه.
وإنّ كان لا بدّ من الضرب؛ فعلى الأب ألا يضرب ابنه وهو غاضب، لأنّها تكون فرصته لإفراغ شحنة الغضب فيه، وقد يسببّ إيذاءه أو يترك إعاقة بدنية دائمة في جسمه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلِيَتَّقِ الرَّأْسَ) لأنّ في الرأس أعضاءً حيويّة حسّاسة، كالعين وقد تؤدي إصابتها إلى العمى، وليس النهي والضرب على الرأس والوجه مقتصرًا على الإنسان، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا ضرب البهائم على وجهها فقد مُرَّ عليه بحمارٍ قد وسِمَ في وجهه، فقال: (أَمَا بَلَغَكُمْ أَنَّي لَعَنْتُ مِنْ وَسَمَ البَهِيمَةَ فِي وَجْهِهَا، أَوْ ضَرَبَهَا فِي وَجْهِهَا)، وقد قال العلماء (بأنّه لا يجوز أيضّاً الضرب على منطقة الفرج)، وورد عن عمر بن الخطاب قوله: (لَا تَرَفَّعَ إِبْطَكَ)؛ وفيه دعوة ألا يضرب الإنسان ويعاقب بكلّ قوة يده، لأنّ رفع الإبط يضاعف من شدّة الضرب، وقد فصّل العلماء في شروط الضرب، خاصة عند الجلد والقصاص، وقالوا بأنّ أداة الضرب يجب أنْ تكون ليّنة وغير مؤلمة.
للأسف الشديد، لا يزال ضرب الطلاب وعقابهم في المدارس شائعًا في معظم الدول العربيّة، وما يرافق هذا الفعل من آثارٍ سلوكيّة خطيرة على الطالب، وهذا يؤدي إلى تنامي مشاعر الاستياء والنقمة لديهم، ومعظم الدول تمنع العقاب والإيذاء الجسدي للطلاب، وقد يضع هذا الأمر المعلمين في حيرة من أمرهم عند مواجهتهم لطلابٍ مشاكسين وعدوانيين، فيجدون أنفسهم مُحاصرين بهذه القوانين الصارمة؛ التي تُحرّم عليهم استعمال الضرب كوسيلة تأديبيّة، ويمكن لهؤلاء المعلمين وكذلك الآباء والأمهات؛ اللجوء إلى وسائل عقابيّة أخرى، مثل حرمان الطفل أوالطالب من المكافآت والهبات والرحلات، وغير ذلك.
مقولة مشهورة عن جبران خليل جبران: (أَنْتُمْ الأَقْوَاسُ وَأَوْلَادُكُمْ سِهَامٌ حَيَّةٌ قَدْ رَمَتْ بِهَا الحَيَاةُ عَنْ أَقْوَاسِكُمْ)؛ وهو تعبيرٌ جميلٌ ورائع، يجعل من الأطفال سِهامًا في أقواس آبائهم وأمهاتهم، وهم يرمونهم ويزجون بهم في معترك الحياة، فعليهم أنْ يعرفوا كيف يسدّدوا رميتهم ويصيبوا بهذه السهام المكان اللائق والصحيح، وأنْ يوجهوها صوب أهدافٍ نبيلة ونفيسة، وها هو الشاعر حِطّان بن المُعَلَّى، يصف أبناءه وصفًا باهرًا ويقول:
لولا بُنيّاتٌ كزُغْبِ القَطا
رُدِدْنَ من بعضٍ إلى بعضِ
لكان لي مُضْطَرَبٌ واسعٌ
في الأرض ذاتِ الطول والعَرْضِ
وإنّما أولادُنا بيننا
أكبادُنا تمشي على الأرضِ
لو هَبّتِ الريحُ على بعضهم
لامتنعتْ عيني من الغَمْضِ
فقد وصفهم مرّة بفراخ طير القطا، لنعومتهم وطراوتهم، ومرّة أخرى قال عنهم بأنّهم كالكبد في الأجسام؛ فمن أراد أنْ يضرب ويؤدّب ابنه فليتذكّر هذه الأبيات الجميلة، وليعلم بأنّهم زهرة الحياة الدنيا وزينتها.