د. محمد عبدالله الخازم
خلال العقود المنصرمة من عمر المملكة العربية السعودية، كان خيار الدولة المركزية ودفع الناس للتوجه نحو المدينة وخلق الخدمات المركزية في المدن الكبرى، أمراً له مبرراته السياسية وإلاقتصادية والاجتماعية والتنموية وعبره استطعنا بناء قاعدة وحدوية تعاضمت قيمتها باندماج أبناء مختلف مناطق المملكة في مصالح اقتصادية وتقاطعات اجتماعية فرضها عليهم عيشهم في المدن وحاجتهم للوظيفة الحكومية وارتباطهم بالاقتصاد المركزي. فعلى سبيل المثال، عندما ندرس تطوير الرياض كمدينة مركزية نجدها أحد محفزات تعميق الوحدة عبر صهر مختلف أبناء المناطق داخل كيان العاصمة كنموذج أعتقد إن لم يأخذ حقه من الدراسات الاجتماعية والجيوسياسية والاقتصادية والتنموية المختلفة، ربما لأننا عادة لا نجري الدراسات على نموذج لا زال نامياً ومتحركاً وإنما نعود له لاحقاً كحالة تاريخية وتطورية.
ونحن للتو احتفلنا ببلوغ بلادنا التسعين من العمر (الرسمي) نحتاج حركة فكرية لا يزاحم عليها الإداري لطرح الأسئلة الاستشراقية والتحليلات المتعلقة بخطواتنا الماضية واحتمالات أو اقتراحات نمونا لقرن قادم أو نصف قرن أو للمستقبل دون تحديد حقب زمنية، من خلال وضع مختلف الاحتمالات الاقتصادية والإدارية والسياسية والمجتمعية والثقافية وغيرها. لا أريد استبعاد السياسي تماما فهو من يقود وفق فكر وفلسفة لا يفصح عنها كثيراً لأنها ليست مهمته الإفصاح والتحليل وإنما تلك مهمة صناع الفكر. لا يمكن القول بأن الملك عبدالعزيز حقق الوحدة دون نظرة أو فلسفة فكرية مستقبلية، لكن السؤال هو هل استطعنا سبر أغوارها وتحليلها بشكل كاف في جوانبها الفكرية؟
هذه أحد المآخذ على احتفالاتنا التاريخية، نعتني بالرصد وليس التحليل وبالتباهي وليس النقد وبالماضي وليس المستقبل. لدينا رؤية اقتصادية يقودها سياسي شاب يشق طريقه نحو تحقيق أحلام وتصورات كبرى لمستقبل وطننا. ندعو له بالتوفيق ونؤازره في صناعة التغيير لكننا نحتاج تقديم مساندة تتجاوز مجرد الإعجاب والمديح، مساندة فكرية لا تهاب الحديث عن المستقبل ولا تتهرب من تحليل الماضي، طالما هي تفعل ذلك من مبدأ فكري وعلمي وليس تأليبي وإفسادي.
لقد بدأت المقال بموضوع مركزية الدولة، وبالتالي أعود للنقطة ذاتها من جانب فكري، وأسأل؛ هل تحققت أهداف المركزية السياسية والاقتصادية والتنموية؟ هل نحتاج الاستمرار في نفس النموذج من الأداء المركزي أم أن هناك حاجة إلى إعادة خلق التوزيع التنموي والتحول نحو تطوير أدوات الإدارة والمشاركة المحلية دون قلق أو خشية على الوحدة الوطنية؟ المركزية كان لها كلفة اقتصادية كبرى ولا بأس في ذلك طالما حققت أهدافها، لكن هل نحن قادرون على صيانتها بنفس التكلفة أم أنها تكلفة باهظة لم يعد لها حاجة مطلقة؟ هل كانت المركزية استراتيجية دائمة تبناها المؤسس للدولة ومن بعده أبنائه الملوك، أم استراتيجيات مرحلية ذات أهداف تحقق أغلبها ولا بأس من مراجعتها ورسم تصورات حول مستقبليتها؟
أطرح الأسئلة وأصنفها فكرية، لأن التنفيذ ليس أمراً عصياً طالما وجد الإطار الفكري والفلسفي الذي يوضح الإيجابيات والسلبيات في جوانبها العميقة والبعيدة زمنياً. رؤية المملكة تمتد إلى 2030م وهي رؤية تنفيذية سياسية لكن فكرياً يجب أن نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.