د. محمد بن يحيى الفال
لعلها المرة الأولى في التاريخ السياسي الحديث للولايات المتحدة التي تصبح فيه أمريكا نفسها تحت أنظار وأسماع العالم تخوفاً من ردود الأفعال المحتملة عطفاً على ما تسفر عنه نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية في الثالث من شهر نوفمبر الجاري. تخوف الأمريكيين أنفسهم والعالم الذي يراقب ما يجري في كبري ديمقراطيات واقتصاديات العالم هو تخوف في محله ويتسند على الوقائع على الأرض والتي نجدها بادية للعيان كالشمس في رابعة النهار في التراشق الشخصي وغير المسبوق سواء من قبل المرشحين على الرئاسة أو بين أتباعهما ومما يزيد صب الزيت على النار بأن نتيجة هذه الانتخابات ستكون مفصلية في مسيرة تعافي أمريكا ومعها بقية العالم من آثار جائحة فيروس كورونا والتي نتجت عنها آثار كارثية وعلى المستويات كافة، سواء كان فيما يتعلق بالناحية الاقتصادية أو الصحية أو الاجتماعية. الخوف من اليوم التالي لإعلان نتائج فرز أصوات الانتخابات الرئاسية يعود بنا بالذاكرة لأكثر من عقود ثلاث خلت حيث بثت شبكة أي.بي.سي التلفزيونية الأمريكية فيلمًا بعنوان اليوم التالي» The Day After»، والذي تدور أحداثه عن هجوم نووي بالصواريخ على كل من مدينتي لورنس بولاية كانساس ومدينة كانسس بولاية ميسوري، والهجوم مصدره الاتحاد السوفيتي، وذلك على ضوء الصراع المحتدم بين كل من حلف وارسو الشيوعي الذي يتزعمه الاتحاد السوفيتي وحزب شمال الأطلسي «الناتو» الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية. الفيلم الذي يصور دورة الحياة في المدينتين المنكوبتين من الهجوم النووي الغادر لاقى الفيلم إقبالاً منقطع النظير وبأكثر من 100 مليون مشاهد في يوم واحد على طول الولايات المتحدة وعرضها ولم يستطع فيلم تلفزيوني آخر وحتى يومنا هذا أن يحصد نسبة مشاهدة مماثلة لم يحصل عليه فيلم اليوم التالي. يعود نجاح الفيلم المنقطع النظير إلى توقيت بثه، حيث بث في شهر نوفمبر 1983 بعد مرور نحو سنتين من تولي الرئيس الأمريكي رونالد ريغان زمام الرئاسة الأمريكية ولفترتين ركز فيهما الرئيس ريغان جُل تركيزه في الملف الخارجي الأمريكي على معاداة الاتحاد السوفيتي والذي كان يطلق عليه مصطلح «إمبراطورية الشر»، ونتج عن اهتمام الرئيس ريغان حدثين مهمين هما دعم أمريكي كامل بما فيه العسكري لحركة المجاهدين في أفغانستان التي أحتُلت من قبل الجيش السوفيتي 1979، ودعم سياسي وإعلامي للحراك العمالي لحركة «سوليديرتي» اتي يتزعمهما النقابي ليخ فاليسا، وذلك في عقر مقر حلف وارسو في العاصمة البولندية. سياسات الرئيس ريغان المناوئة للاتحاد السوفيتي لم تذهب أدراج الرياح بل أتت أُكُلَها وبامتياز نتج عنه وفي بداية التسعينات تفكك الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين وتوحيد شطري ألمانيا.
في عالم الأفلام وفي عالم الواقع فشلت كل التهديدات التي واجهتها الولايات المتحدة وخرجت منتصرة من الحرب العالمية الثانية لتقود العالم من ذلك الحين ولتثبت دوماً تفوقها على كل القوى المعادية لها، بيد أنها تواجه في الرابع من شهر نوفمبر الجاري، وللمصادفة التاريخية وكما كان توقيت بث فيلم اليوم التالي آنذاك في شهر نوفمبر، تهديدًا لم يكن في يوم من الأيام ضمن حسابات الساسة الأمريكيين وحتى في مخيلة أكثرهم تشاؤماً، وهو إمكانية رفض أحد طرفي سباق الرئاسة لنتائجها وإصراره بأنه هو الفائز وليس منافسه. من ناحية عملية فهذا الأمر قد حدث فعلاً في انتخابات أمريكية سابقة وهي انتخابات عام 2000 الرئاسية بين كل من الجمهوري الرئيس جورج بوش الابن والمرشح الديموقراطي آل جور والتي حدث فيها تنازع بين المتنافسين فيما يخص عدد الأصوات الصحيحة لكل منها في حساب تصويت ولاية فلوريدا المفصلي في تحديد هوية الفائز، وهو الأمر الذي تقرر بأنه الرئيس جورج بوش الابن بعد إعادة فرز الأصوات، وفي نهاية سلمية قبل آل جور بالنتيجة، ولعل سيناريو فلوريدا في انتخابات 2000 قابل أن يتكرر في انتخابات 2020، وهناك مؤشرات لذلك، وهو الفرق الضئيل بين كل من الرئيس ترامب ومنافسة بايدن للفوز بهذه الولاية المفصلية. على كل حال فمن المؤكد بأن أجواء انتخابات 2020 تختلف كلياً عن أجواء أي من الانتخابات الرئاسية الأمريكية السابقة ولعوامل عديدة أهمها جائحة كورونا وما خلفته من آثار على مختلف الأصعدة، التوترات العرقية بين الجماعات المتطرفة، عنف الشرطة ضد السود الأمريكيين وتصاعد الدور السلبي لمنصات التواصل الاجتماعي ودورها في بث الكثير من التراشقات السلبية ونتيجتها على تماسك الأمن والسلم الداخلي الأمريكي.
ما يؤجج المخاوف من يوم تالٍ غير مرغوب فيه لإعلان الفائز بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، هو ما يصدر من تصريحات من قبل المرشحين سواء في خطاباتهما للتجمعات الانتخابية أو من خلال تغريداتهما على منصة تويتر، فالرئيس ترامب يخوف الأمريكيين من سيطرة اليسار والشيوعيين على مفاصل الدولة الأمريكية في حالة فوز بايدن وسيطرة الحزب الشيوعي الصيني على الاقتصاد الأمريكي، وتطرق إلى اكتشاف بطاقات انتخابية تصوت له محروقة في صناديق اقتراع في كل من ولايتي ماساشوستس وبنسلفانيا، ويؤكد في الكثير من تغريداته بأن الحالة الوحيدة التي سوف يخسر فيها هي حدوث تزوير كبير في الانتخابات. جو بايدن يستخدم إستراتيجية التخويف المنطلقة مما يحدث في الساحة الأمريكية فعلاً وعلى رأس ذلك طريقة تعامل إدارة الرئيس ترامب مع جائحة كورونا والتي خلفت حتى الآن ما يقارب من ربع مليون وفاة والمزيد منها متوقع مع قادم الأيام، نقده الممنهج لعنف الشرطة ضد السود وتأييده لحراك «حياة السود مهمة» واختياره لعضو مجلس الشيوخ عن ولاية كاليفورنيا الأمريكية من أصول إفريقية وهندية كاملا هاريس نائبة له هو ضمن إستراتيجيته بالفوز بأصوات السود والأقليات والتي من المؤكد لن تكون من ضمنها أو على الأقل إلى حد كبير مجموعة العرق اللاتيني والتي بينها وبين الأمريكيين من أصول إفريقية، صراع مجتمعي مسكوت عنه ومتواجدين بكثافة في ولايات فلوريدا، نيومكسيكو وأريزونا.
الخوف من حدوث اضطرابات واسعة النطاق وغير محمودة العواقب في اليوم التالي لإعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية أخذته الكثير من الولايات مأخذ الجد وأعلنت عن استعدادات تم وضعها في عين الحسبان لمواجهة الاحتمالات كافة، ومنها موجات عنف شديدة وردود أفعال غاضبة وخارجة عن نطاق القانون. طبعاً، الأمريكيون وأصدقاؤهم في كل بقاع العالم ومنهم المملكة العربية السعودية قيادة وشعباً يتمنون أن تمر الانتخابات الرئاسية الأمريكية بخير وسلام وبما عُرفت به الولايات المتحدة بأنها دولة قانون ومؤسسات، وهي الدولة الصديقة للمملكة التي تربطها بها علاقات إستراتيجية قديمة ومتينة أسس لها كل من الملك عبدالعزيز - رحمه الله - والرئيس الأمريكي الديمقراطي فرانكلين روزفلت على متن المدمرة الأمريكية كوينسي ومستندة لعقود من التعامل المبني على الاحترام المتبادل والتعاون الإيجابي بين البلدين لما فيه مصلحتهما ومصلحة شعبيهما، وبمناسبة الشعبيين فلا بد من الإشارة هنا بأن العلاقات الاجتماعية بين شعبي البلدين ربما تعد من أقوى علاقات الشعب الأمريكي مع آخر من شعوب دول الشرق الأوسط، ويعود ذلك لآلاف الارتباطات الأسرية الناجحة بين سعوديين وأمريكيات، وكذلك وجد مئات الآلاف من السعوديين والسعوديات التي حملتهم طموحاتهم المهنية للسفر للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك منذ الستينات من القرن المنصرم وبتمويل كامل من حكومة المملكة العربية السعودية والذي توج ببرنامج الابتعاث الذي يمنح سنوياً آلاف المنح الدراسية للطلبة والطالبات للدراسة في الخارج وتحديداً الولايات المتحدة، وهو برنامج لا مثيل له في كل دول الشرق الأوسط.
في الفيلم التلفزيوني الشهير «اليوم التالي»، كان التهديد على الولايات المتحدة قادماً من الخارج، وفي هذه المرة وفي الواقع وبعيداً عن عالم الأفلام الخيالي، فهناك تهديد داخلي يتمني الجميع عدم حدوثه مرده ربما يعود إلى فحوى المقولة الأمريكية الشهيرة عندما يتعلق الأمر هنا بنتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية الحالية المتنافس عليها بشكل محموم غير مسبوق، المقولة تقول «هناك الكثير على المحك»، «The Stakes are High».