د.عبدالرحيم محمود جاموس
قد يعجزُ اللسانُ وأيضاً القلم في التعبير عن إحساسِ أو نشوةِ المرءِ في مرحلةٍ من مراحلِ العمر، حين كنا أطفالاً وادعين، نتفاعل مع البيئةِ والمحيطِ الذي نَشأنا فيه، كانت بيئةً ريفيةً جميلةً لا يُنغصها شَيء، كانَ الإيمانُ يملأُ النفوسْ، والحبُ يغمرُ القلوبْ، والفرحةُ تأخذُ كافة أشكالها المتاحة، ففي موسمِ الزيتونِ، الذي تعيشه فلسطين كل عام منذ الأزل، كان موسمُ حبٍ وخيرٍ، يتفاعلُ فيهِ الجميعُ كباراً وصغاراً، فرحين مسرورينَ بما يجودُ بهِ من خيرِ الشجرةِ المباركةِ، التي يكادُ زَيتُها أن يُضيءَ دونَ أن تَمْسَسَه نارْ، لم يكن يُعكرُ صفوَ الناسِ، لا إرهابَ ولا مُستوطنين، ولا جدارٌ يحولُ بينهم وبينَ أشجارِ الزيتونِ وثمارها الطيبة، ففي النهار يسرحُ السارحوُن لقطفِ الثمارْ، وفي المساءِ يتسامرون ويقومونَ بتصنيفِ حبِ الزيتون الذي قد قطفوه، هذا صنفٌ للتخليل، والآخر للكامر أو التكليس، وهذا للزيتِ، وآخرَ للرصعِ أو التشطيبْ، أمسيات جميلة هانئة، كانت تجمعُ جميعَ أفرادَ الأسرةِ والجيران مَعَهم أيضاً، يتفاعلون فيها مع هذا النشاط الموسمي بفرح يلون حياتهم بلون الزيت وطعم العسل...
قد يعجز اللسان والقلم أيضاً في التعبير عما يدور الآن في العقل من أفكار، ومشاعر تختلجُ في القلبِ من حبٍ وشوقٍ وحنينْ إلى موسمِ الزيتونِ حين نتذكرهُ في البلدة التي كانتْ وادعةً وحالمةً، وداعةَ طيورِ السُنُونو، وحالمةً حُلمَ الحمامِ برزقٍ جديد، تعيشُ على وقعِ مواسِمِها وخَيرِها، وأَجملها مَوسمُ قَطفِ الزيتونْ، كنا صغاراً في العمر والأجسام حينَهَا، ولكننا كنا كباراً في المشاعرِ والإحساسِ والبراءةِ، والبساطةُ تغمرنا وتغمرُ حياتنا، والحبُ يَلفنا ويُغطينا، نشارك الأهل الفرحَ فيما يُفرحهم، والعملَ فيما يَعملون، مُنذُ سن الطفولة المبكرة، فكنا نذهب إلى المدرسةِ فرحين، ونعودُ مِنها فرحينَ، ونَنخَرِطُ فيما هم فيه الأهلُ منخرطين ...
وفي موسمِ الزيتون وبعدَ نهايةِ الدوامِ المدرسيْ، كنا نلتحق بالأهلِ في الحقول مباشرةً، نتناول مَعَهمْ طعامَ الغداء، ونلهوُ ونلعبُ بين أشجارِ الزيتونِ اليانعةِ، والتربةُ الحمراءُ كانت تجمل المكان، أو نشاركُ معهم في قطفِ ثمارِ الزيتونِ الناضجة...
كم هي جميلة تلكَ الأيام وتلك الذكرياتْ، وكم هُوَ مؤلمٌ لنا اليومَ تذكرها بعدَ أن حالَ الاحتلالُ الصهيونيُ بيننا وبينها منذ العام 1967م، حين قذفنا إلى البعيدِ وإلى الغربةِ والهجرةِ والمجهول، عن تلك المواسمِ والبيئةِ الطبيعيةِ الجميلة، فَحلَّ بنا ألمُ الذكرياتْ محلَ الفرحِ، ليمنحنا طعماً جديداً كطعم العسل المر، أو كطعم الحنظل أو أكثر ...
ولمن بقي صامداً في الأرض من أهلنا، جرى اغتيالُ البهجةِ والفرحِ الذي كان يغمر الجميع في الماضي، على يدِ قُطعانِ الاستيطانِ وإرهاب الاحتلال الذي يَتعرضونَ له ولاعتداءاته على البشر والشجر سواء، هكذا يتفجر هذا الإحساس والشعورُ الجميلُ والمؤلمُ الآنَ وسنوياً كلما حلَّ موسمُ الزيتونِ في فلسطينَ منذ وقعت تحتَ الاحتلال...
ليتني أعود طفلاً، يذهب إلى المدرسة في الصباح، ويلتحق بالأهل في حقولِ الزيتون فرحاً بعد الانتهاء من دوامِ المدرسةِ، لأشارِكهُم الفرحَ بقطفِ الزيتونِ أو اللهوِّ بينَ أشجارِها، والتَمتعِ بسحرِ طبيعتها، وشربِ الماءِ الباردِ من البئرِ، الذي كان يُطفئُ عَطَشَ جميعِ السارحين إلى الحقولِ...
نعم كان فرحٌ بلونِ الزيتِ وطعمِ العَسلِ، بات اليوم ذكرى بطعم العسلْ المر أو الحنظل أو أكثرْ بسبب الاحتلال الصهيوني ومستوطنيه وإرهابه البغيض.