سلمان بن محمد العُمري
هناك هاجس اجتماعي لدى كثير من الناس يتمثل في إسداء المعروف، والمكافأة عليه، أو انتظار رده بالمقابل. وبتبسيط الصورة: تزورني حينما أزورك، وتهديني حينما أهديك.. وهكذا. بل وصل الأمر إلى السلام والتحايا والتهاني والتعازي. وبعض البشر كالبعير؛ يطوي كل دقيقة وجليلة؛ فلا ينساها؛ ليعامل الناس بمقابلها في قادم الأيام!
وهذه الظاهرة السلبية حذَّرنا منها أسوتنا وقدوتنا وحبيبنا ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام كما جاء في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها». رواه البخاري.
فنهى عمن لا يفعل الإحسان إلا بمقابل مثله، حتى إن كان مع أقاربه وأرحامه، وليس مع الناس فحسب. وهذا خلاف ما يحثنا عليه ديننا الحنيف بأن نصل من وصلنا ومن قطعنا على حد سواء، ونعطي من حرمنا، ونحسن إلى من أساء إلينا، ولا نُقصر العطاء والإحسان والوصل على مَن سبقنا بهذا المعروف.
إن من الناس من هو فاقد للمشاعر بالكلية، ولا يعرف إلا الذاتية والأنانية؛ فهو يأخذ ولا يعطي، بخيل بالمشاعر وباللسان، شحيح بالبنان؛ فلا يشكر على المعروف، ولا يعرف إغاثة للملهوف. وآخر لا يعطي إلا لمن أعطاه، ولا يحسن إلا لمن يحسن إليه، ولا يصل إلا مَن يصله. وهذا مكافئ. وأفضلهما جميعًا من كان المعروف والإحسان والخير وسائر مكارم الأخلاق في تواصله مع الناس، قريبهم وبعيدهم، مبنيًّا على نفس كريمة، تحب الخير للغير، ولا تنتظر عليه جزاء ولا شكورًا، بل ابتغاء ما عند الله - عز وجل -.
لقد أدت هذه المحاسبات الدقيقة والنفسيات المريضة إلى انفصام العلاقات الأخوية وقطيعة الرحم. فهذه الثقافة البائسة كما يعبِّر عنها بعض الناس تقوم على مفاهيم نفعية:
إذا اتصل بي أتصل به.
إذا حضر عزيمتي أحضر عزيمته
حتى العزاء! إذا عزاني أعزيه.
يقول الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله تعالى-: «لا تعامل الناس في العواطف بمقياس البيع والشراء، ولا بميزان الربح والخسارة، بل عاملهم بالكرم والجود. اجعل مَن يراك يتمنى أن يكون مثلك». ولو أدرك الطنطاوي شيئًا مما وصلنا إليه في زماننا هذا من العلاقات التجارية والحسابية لقال فيهم أشد مما قاله مستنكرًا على من عناهم في السابق.
والحمد لله الخير موجود في الناس. وقد تذكرت ما قاله أحد الأحبة وهو يرثي صديقًا له، وكان مما امتدحه به الوصل وبذل المعروف بلا مقابل، فقال عنه: «كان -رحمه الله- خلال مدة علاقتنا وصداقتنا هو الواصل حبالها، الساقي زرعها بتواصله ومحبته وتواضعه ولين جانبه، وتركه عتاب صاحبه. صادق اللهجة، مخموم القلب، غير خب، ولا الخب يخدعه، نيّر الفكر، واسع المدارك، بعيد النظر، معتدل الرأي، ذا حكمة وأناة وسعة بال».
وكم من الأخيار أمثال هذا الرجل لا يزالون يبعثون في النفوس الأمل، ويؤكدون أن الناس ما زالت بخير. وعلى أولياء الأمور والمربين والخطباء والدعاة والإعلاميين بث الروح الإيجابية بين الناس، وإحياء المعروف، وتعزيز المبادرات الاجتماعية، ونبذ الذاتية قولاً وعملاً.