محمد عبد الرزاق القشعمي
تمر الأيام سريعاً وننشغل بأمور ومتطلبات الحياة دون أن نقف ونذكر بعض المناسبات المهمة وبداياتها، وعن الرواد ومعاناتهم في تحمل المصاعب لعدم توفر وسائل التواصل وقبل اكتشاف الآلة الحديثة وتطويع الممكن وتسخيره ليتماشى مع التطور ليساير دوران عجلة التقدم، وتجاوز العقبات التي تعترض الطريق.
فلو نظرنا لما نحن فيه الآن من توافر وسائل الراحة وتطور الأجهزة وبالذات ما يتعلق منها بالطباعة وصناعة الصحافة، فقد كانت إمكاناتها محدودة بالرغم من أنها الوسيلة الوحيدة التي تنقل الأحداث للمواطنين التي تجري في محيطهم وفي العالم ومتابعتها والتعليق عليها.
ثم تطورت مع توفر وسائل الإنتاج والعلم والمعرفة، وأصبحت تطرق أبواباً مختلفة. بل وجميع ما يهم الإنسان. وكانت قبل انتشار المذياع واكتشاف التلفاز هي المصدر الوحيد للأخبار، وكان لها مكان مرموق في المجتمع فكانت تسمى (صاحبة الجلالة) و(السلطة الرابعة).
فلو عدنا إلى الوراء إلى ما قبل أو مع تأسيس هذا الكيان، والحرص على مواكبة مظاهر النمو والتطور ومنها وجود الصحافة رغم شح الإمكانات المادية وصعوبة المواصلات والتواصل، فهل نفكر ونستعيد ذكرى روادنا الأوائل الذين ضحوا بمالهم ووقتهم ونذروا أنفسهم لتوعية أبناء مجتمعهم في حمل المشاعل وتعبيد الطرق التي يسير عليها أفراد المجتمع نحو العلم والمعرفة.
الآن ونحن نعيش ذكرى مرور مائة سنة على صدور أول جريدة في المملكة (أم القرى) التي صدرت بعد أسبوع من دخول الملك المؤسس مكة المكرمة، فقد صدرت يوم الجمعة 15 جمادى الأولى سنة 1343هـ الموافق 12 ديسمبر 1924م وما زالت، وتبعها كثير من الصحف والمجلات وأصبحت الفترة الأولى (1343 - 1383هـ) تدعى صحافة الأفراد. الذي يقول عنها الأستاذ عابد خزندار إن صحافة الأفراد صحافة رأي والرأي محسوب على صاحبه، أما صحافة المؤسسات فهي صحافة خبر.
إلا نستعيد ونحتفي بهذه المناسبة ونذكر الرواد الذين مهدوا الطريق وقدموا أغلى ما يملكون من خبرة محدودة وبوسائل بدائية ومع ذلك صمدوا وتحملوا.
سأختار بعض المواقف في المعاناة الصعبة التي يذكرهم بعضهم.
o يذكر الأستاذ عثمان حافظ في كتابه (تطور الصحافة في المملكة العربية السعودية.. الجزء الثاني: قصة جريدة المدينة).. أما من الناحية المادية فقد مرت علينا ظروف عجاف قاسية أكلت ما فوقنا وما تحتنا كانت النفقات فوق طاقتنا المادية وفوق احتمالنا، ولم يكن الوارد من الجريدة شيئاً مذكوراً بالنسبة لمصاريفنا. وإذا هلّ الشهر علينا.. لا بد من تدبير مرتبات العمال. ولا بد من دفع قيمة الطوابع التي تلصق على إعداد الجريدة للمشتركين في الداخل والخارج، ولا أذكر أن هلّ علينا شهر من الشهور وفي صندوق الجريدة ما يسد مرتبات العمال، بل لا بدّ من أن نسحب من منازلنا أشياء وأشياء لتسديد أجور عمال المطبعة. كان المبيع من الجريدة (يا دوب يمشي الدولاب) ويغطي المصاريف اليومية، ولم يصلنا من الاشتراكات إلا القليل..».
وقال: «وكان الأدباء يكتبون في المدينة دون أن يتقاضوا أي أجر على ما يكتبون، ولا أذكر أبداً.. أن جريدة المدينة - عندما كانت بعهدتنا - دفعت أي مبلغ للكُتَّاب عدا ما قدمته المدينة من هدية رمزية - أو هي خيالية للأستاذ ضياء الدين رجب الذي كتب مقالاً في جريدة المدينة المنورة بتاريخ 4 ذي الحجة عام 1381هـ تحت عنوان (حديث في رسالة) يلمح فيه لطلب المكافأة للأقلام الكاتبة.. وقال: «... والأقلام اليوم لم تعد ترفاً ولا خرفاً. وأنها أصبحت شرفاً - لا تتحمل قرفاً - قرشونا نقرشكم، ونهاودكم في السعر - ونقبله نقداً أو غير نقد - من محصول البلد، تمراً، قمحاً، رطباً، عنباً، مكانس، قففاً، مراوح، شراباً وكل بحسابه، وبلا فضل، ولا رياء... أصبحت ثروتنا هذه الألقاب (الكاتب الكبير).. و(الشاعر المعروف). وهذه عملة لا يقبلها بنك، ولا تاجر، وبقال، ولا قماش...».
فيرد عليه رئيس التحرير عثمان حافظ بأن صندوق الجريدة.. خاوي.. كلما قرعناه يتراجع صداه في جوانبه فنرتد خائبين.. إلى أن قال وهو في خجل «.. إنه يهديه عباية بيضاء ناصعة كان قد أدخرها ليلبسها في الصيف أو يستبقيها للجمعة والعيدين أو مقابلة الحكام. والآن سنقدمها لك لنضمن أحاديثك.. أبعثها لك لا من باب تسديد الأجر - أو سد الحاجة - وهي لا تليق بالمقام - ولكنها الموجودة الآن - وقد هاودتنا في قبول الموجود - وسوف لا نبخل بموجود - وأنت لا تطالبنا بمفقود - ونسير معك على قاعدة - أنت لا تطالبنا ونحن ما ننساك.
وأرجو أن يكون هذا سر بيننا، فلا تسره لأحد من إخواننا الكُتَّاب لئلا يفتح الباب علينا..». ص 207 - 209.
o ومما قاله الأستاذ عبدالكريم الجهيمان في كتابه (مذكرات.. وذكريات من حياتي) «.. وبعد أن استقر بي المقام في الرياض بدأت أكتب باباً ثابتاً في صحيفة اليمامة بهذا العنوان وهو (أين الطريق).. وكأن صاحب هذه الصحيفة ورئيس تحريرها الشيخ حمد الجاسر... وكان يسافر في بعض الأيام خارج البلاد ليُسند التحرير لبعض كُتاب الصحيفة... وقد قمت برئاسة التحرير نيابة عن الجاسر عدة مرات إذا سافر الشيخ وأنا مقيم في الرياض..
وكل تلك المقالات أو نيابة التحرير لا نأخذ عنها أي مقابل مادي... وإنما نقوم بها على أنها واجب وطني، وكان جميع الكُتاب من أمثالي في تلك الفترة لا يأخذون أي مكافأة على ما يكتبون... فليس هناك كُتاب محترفون وإنما كتاب وطنيون متطوعون... هدفهم الصالح العام... لوطنهم ولمواطنيهم.. وخدمة لحكومتهم الفتية..». ص199.
o ويقول الشيخ محمد الناصر العبودي في كتابه (يوميات نجدي) أنه في منتصف شهر المحرم 1372هـ يرافق الشيخ عبدالله بن حميد رئيس قضاة منطقة القصيم لزيارة المدن الرئيسة بالمنطقة الغربية لإنهاء معاملات متأخرة في محاكم الحجاز.
... وفي مكة يكتب (أخبار سارة) بأن صديقه عبدالله المزروع قد نقل له بأن حمد الجاسر قد حصل على ترخيص بإصدار جريدة باسم (الرياض) فيفرح ويقول: «... لقد زالت الحواجز التي كان المستبدون يضعونها دون انتشار جريدة أو مجلة في الرياض حذراً من تكون سبيلاً لإحياء الوعي في الجماهير، وتكون واسطة لتنبيه الناس إلى حقوقهم..». ص 158 ج3.
o ومن غرائب أو طرائف المغامرات يقول الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين أنه وزميله بالجمارك محمد سعيد باعشن قد تدارسا إمكانية إصدار عمل مشترك.. ولكن الأحلام والآمال كبرت بحيث يذهبان إلى المديرية العامة للصحافة والنشر ليقدماً طلباً لإصدار صحيفة أسبوعية دون أن يحسباً العواقب.
وهكذا بعد ستة أسابيع تأتيهم الموافقة السامية.. فيصبح الحلم حقيقة ويبدآن البحث عمن يمولهما، فأقرضهم التاجر محمد علي رضا ألفي ريال قيمة إعلانات مسبقة، وأسكنهما البنك الأهلي بإحدى شقق عماراته مقابل أن يُعلنا للبنك مقابل قيمة الإيجار. وهكذا صدر أول عدد من جريدة الأضواء بجدة في شهر ذي القعدة عام 1376هـ.
o ونجد الأستاذ عبدالقدوس الأنصاري يقول: «.. أن العدد الأول من مجلة (المنهل) الذي صدر في شهر ذي الحجة عام 1355هـ بالمدينة المنورة، صدر وليس عندي من النقود سوى 40 ريالاً سعودياً دفعتها كلها للمطبعة وما أغنت شيئاً، ثم استقرضت من صديق بقية القيمة وسددتها للمطبعة...».
o ونجد الأستاذ سعد البواردي، بائع أدوات السيارات بالخبر، يأخذه الحماس بعد احتجاب صدور جريدة (الفجر الجديد) ليقول في شهادة بقلمه: «.. ولأن (الفجر الجديد) احتجبت اخترت (الإشعاع) امتداد لذلك الفجر الغارب.. كان هذا في منتصف عام 1374هـ.. وجاءت الموافقة سريعة.. كان علي أن أصدرها في موعدها المحدد بداية عام 1375هـ.. ولكن كيف لقارب أن يتحرك دون مجداف. صدر عددها الأول في حجم صغير. وطباعة متواضعة لدى مطابع المرحوم خالد الفرج بالدمام.. وفي ثماني وأربعين صفحة.. كنت للأسف كل أسرة تحريرها.. بل أكاد أقول كل كتابها.. تحت هذه العناوين جاءت الكتابات متواضعة إلى أقصى حد.. سعد البواردي. س.ب. فتى الوشم. أبو سمير. أبو نازك. كانت ميزانيتها تقتطع من مرتبي الصغير أكثر من نصفه.. لا يهم، المهم أن تبقى المجلة أطول أمد ممكن.
بدأت الأقلام تتوالى.. جلها أقلام شابة واعدة مليئة بالحماس والتدفق الوطني.. من بين كتابها المعروفين آنذاك. الأمير عبدالله الفيصل، محمد حسن عواد، إبراهيم العواجي، محمد المسيطير، وغيرهم..». ص139. (الصحافة بالمنطقة الشرقية).
لعلي اكتفي بما سبق خشية ملل القارئ.
وختاماً وبحكم أن وزارة الإعلام هي المسؤولة عن الصحافة وبحكم أن وزيرها معالي الدكتور ماجد بن عبدالله القصبي ليس غريباً على الصحافة بصفته وبصفة والده الشيخ عبدالله بن عثمان القصبي، مديراً عاماً لمؤسسة المدينة الصحفية مع بداية فترة صحافة المؤسسات.
وقد ترجم له الراحل الدكتور عبدالرحمن الشبيلي في كتابه (إعلام بلا إعلام) ج2. قائلاً: «.. ثم أصبح مديراً عاماً لمؤسسة المدينة الصحفية لفترتين، وكان أحد أعضائها المؤسسين واحد كُتابها المبرزين في تلك الفترة..».
وقال عنه عثمان حافظ في (تطور الصحافة في المملكة) عن جريدة المدينة «.. وانتخبت الجمعية العمومية الشيخ عبدالله القصبي مديراً عاماً للمؤسسة وبعد موافقة وزارة الإعلام باشر العمل في المؤسسة في شهر صفر 1386هـ واستمر حتى استقالته في 15 - 3 - 1390هـ..». فلعل معالي الدكتور ماجد يتبنى هذا الاقتراح ويحقق هذه الأمنية وما ذلك على همته بعزيز..