عبد العزيز الصقعبي
الممر طويل، وعلى جانبيه عدد من الغرف، بين أبواب الغرف وضعت مجموعة مقاعد أشبه بمقاعد الانتظار في المستشفيات، أو المطارات، زينت جدران الممر بلوحات ذات نسق واحد، أشبه بمعرض لمصور فوتوغرافي، يهوى تصوير الزهور والحدائق، عموماً تلك اللوحات تكسر رتابة اللون الأبيض الباهت لتلك الجدران، الأبواب مغلقة، والمقاعد شبه مهجورة، لا أحد في ذلك الممر، لا أحد كلمة غريبة على ذلك الممر بالذات في مثل هذا الوقت، حيث من العادة ألا يكون هناك موطئ لقدم، والسعيد هو الذي يجد مقعداً شاغراً، ليمارس الانتظار حتى يأتي دوره ويدخل إحدى تلك الغرف، ولكن اليوم وتحديداً الآن لا يوجد أحد.
في يوم ما قرر أحدهم بنقل جميع المقاعد، إلى مستودع، ليصبح ذلك الممر غير مهيأ للجلوس والراحة، ومن سينتظر عليه البقاء واقفاً، المزعج لتلك لمقاعد أنها ستوضع في مستودع أرضي، مع أثاث أغلبه قديم، وسيجتاحها الغبار والإهمال، بينما سابقاً كان عمال النظافة يحرصون على لمعانها ونظافتها، اللوحات ستبقى، فوجودها وعدمه سواء، والممر سيعاود استقبال الناس في أيام لاحقه، ولكن سيكون العدد أقل من السابق ربما النصف، سيأتي أناس لهذا الممر ليدخلوا إحدى تلك الغرف ولكن وفق موعد مسبق، عبر تطبيق إلكتروني خاص يحدد موعد الدخول للمكتب بالساعة والدقيقة، لا بأس، لن يكتظ الممر بالناس، سيكون فعلاً ممراً، حيث لن يقف أحد منتظراً إلا لدقائق قليلة بالذات إذا جاء قبل الموعد، ولكن لو تأخر سيوثر ذلك على الذي سيكون دوره بعده، ويضطر للانتظار عند الباب في الممر، وهذا ما حدث في اليوم الثالث أو الرابع بالذات عندما بدأ العدد يزداد، لذا فأحدهم الذي قرر إزالة المقاعد، أصدر قراراً جديداً بإعادة المقاعد للممر، ولكن ليست كل المقاعد بل النصف، ووجه أن تلك المقاعد مخصصة لكبار السن والنساء، لم يفكر من قرر بعودة تلك المقاعد أن هنالك عدداً كبيراً من المرافقين مع كبار السن والنساء، وهذا يعني أن بعض المقاعد سيشغلها أولئك، لذا كان القرار بإعادة بقية المقاعد ليصبح الممر كما كان سابقاً.
من يرى المقاعد يتوقع أنها متشابهة، ولكن الحقيقة أن بعضها قد استُهلك كثيراً لأن الغرفة التي بجانبها، يرتادها كثير من الناس، لذا فليس غريباً أن يجلس اثنان على مقعد واحد، وهذا يتسبب باستهلاك ذلك المقعد قبل بقية المقاعد، إضافة إلى أن البعض يهوى أن يلصق أسفل المقعد علكاً كان يجتره قبل دخوله للغرفة، وغالباً يد عامل النظافة لا تصل لمكانه، المزعج عندما تتحرك أصابع يد رجل طفولي لأسفل المقعد ولو كان من الفولاذ، لتمسك بمفصل أو مسمار وتحركه ليسقط بعد زمن بمن يجلس عليه، ربما تصرف لا شعوري، ولكن هذا كما يعتقد من قبيل التسلية لحلحلة البراغي والمسامير، ثم ربطها، ولكن لا وقت لربطها وتثبيتها، لأن جلوس ذلك الطفولي، مؤقت، وربما لمرة أولى وأخيرة، الضحية أولاً وأخيراً المقعد، لأنه سيصبح تالفاً، ولن يستخدمه أحد إلا للضرورة، بل ربما يعتقد البعض أن ذلك المقعد مصنوع من مواد رديئة، وبالطبع لن يفكر أحد أن يجلب أي شبيه له مستقبلاً.
حظ تلك المقاعد أنها على جانبي ممر لمؤسسة لها علاقة بالجمهور، والفئة التي تجلس عليها غالباً من عامة الناس، الشيء الجيد أنهم ليسوا مرضى، فتلك المقاعد ليست في قاعة انتظار بالمستشفى بل في ممر، وغير الجيد أن تلك المقاعد ليست في قاعة انتظار مسافرين في إحدى المطارات، حتماً تلك القاعات أجمل، ولكن أيضاً الحظ التعيس لتلك المقاعد أنها للاستخدام الداخلي، أي أنها لا تصلح للأماكن المكشوفة، لأنها ستتعرض للتلف مباشرة من الشمس والغبار وبالطبع الأمطار، وكل مقعد يتمنى لو كان مكانه في حديقة عامة، وليس في ممر عرضه أقل من أربعة أمتار.
هذا الممر مزدان بلوحات لحدائق وزهور، ربما هنا فرصة للحلم، حين يجلس أحدهم على أحد المقاعد منتظراً موعده لدخول إحدى الغرف، ويشاهد تلك اللوحة، سيتخيل نفسه في حديقة غنّاء، وكلمة غنّاء بفتح العين والشدة على النون، مرتبطة دائماً بالحديقة، وتوحي بأنها وافرة العشب، وبهاتين الكلمتين ينتقل من هذا الممر التعيس إلى جمال الطبيعة والفضاء الواسع، حتماً سيصل شيء من هذا التخيل الذي يتشكل في ذهن ذلك الرجل الجالس والمنتظر من مقعد في ممر تعيس إلى مقعد في حديقة غنّاء للمقعد، التخيل هذا لا يحدث دائماً، وربما لن يحدث في المستقبل بالذات عندما يغادر الجميع المكاتب، وتتحول العلاقة من واقعية إلى افتراضية، سيقل أو ستنتهي علاقة الناس بمقاعد الانتظار، إلا في أماكن محدودة، ولكن في هذا الممر، ستمارس كل من المقاعد واللوحات والأبواب صمتاً رهيباً، لأن كائناً لا يرى بالعين المجردة عاث في الأرض فساداً، وحرم المقاعد من متعة الجلوس.