أثار لورانس فينوتي في كتابه اختفاء المترجم (The Translator’s Invisibility) الصادر عام 1995، جدلاً واسعاً بين أوساط المتخصصين في مجال الترجمة والأدب المقارن. يتناول الكتاب قضية هيمنة منهجية توطين النص الأصلي Domestication Method والتي سيطرت على أغلب الترجمات الصادرة باللغة الإنجليزية في أمريكا وبريطانيا في العصر الحديث، ونظّر لها بعض أشهر المتخصصين في الترجمة مثل يوچين نايدا. تتلخّص هذه المنهجية في المفهوم الشائع: «بأن أفضل الترجمات هي تلك التي تُشعر القارئ بأنه يقرأ النصّ الأصلي ولا يشعر أبداً بأنه يقرأ نصّاً مترجماً» وذلك بسبب اختفاء المترجم وراء عملية توطين السمات اللغوية والحضارية والثقافية للانصهار في لغة وثقافة قارئ النص المترجم. يدفع المترجم إلى اتباع هذا المنهج رغبة دور النشر وكثير من القراء الذين يبحثون عن الشفافية والسلاسة في النصّ المقروء دون مراعاة لدور الترجمة في الكشف عن الاختلاف الثقافي واللغوي بين مختلف الشعوب. يقول فينوتي: «يحصل الاختفاء عندما يحظى النصّ المُترجم إلى الإنجليزية بالقبول من قبل معظم الناشرين والقراء بسبب كونه يُقرأ بطلاقة، وعندما يكون غياب أي خصائص لغوية أو أسلوبية مزيّة تجعل النصّ المترجم يبدو شفافًا وكأنه يعكس شخصية الكاتب الأجنبي، أو نيته، أو المعنى الأساسي للنص الأجنبي - أي، بمعنى آخر، أن الترجمة ليست في الواقع ترجمة ، بل هي «الأصل».
الفكرة المهمة في كتاب فينوتي تركّزت على أن الترجمة يمكن دراستها وممارستها كمنهجية تعترف بالاختلاف الثقافي وتركز عليه، بدلاً من التوطين الذي يجعل النصوص متشابهة لغوياً وثقافياً. اختفاء المترجم اليوم يثير أسئلة مقلقة حول الاقتصاد الجيوسياسي للثقافة، الأمر الذي يجعل الحاجة ماسة إلى مزيد من الشكوك حول الترجمة لمواجهتها. ولأن الترجمة عبارة عن كتابة مزدوجة، على حدّ تعبير فينوتي، فإن أي ترجمة تتطلب قراءة مزدوجة.
وعلى الرغم من أهمية هذه الأراء التي جاءت في الكتاب إلا أن طبيعة المنهج التغريبي (Foreignization approach) الذي اقترحه فينوتي قد بدا مربكاً للقارئ، خاصة في إشادته بالترجمة الإنجليزية لليالي العربية والتي قام بها ريتشارد بيرتون ( Richard Burton). وصف فينوتي هذه الترجمة بأنها مثال جيد على الترجمة التغريبية وشجّع المترجمين على الاحتذاء بها؛ فهي تبتعد عن التدجين وتبرز كثيراً من الاختلافات الثقافية واللغوية، وبالتالي فهي، حسب رأي فينوتي، ترجمة صادقة تكوّن شكلاً من أشكال المقاومة ضد العرقية والعنصرية التي تجسّدت في بعض الترجمات الحديثة. ولكن التاريخ الطويل والمعقد لليالي العربية يشهد بالتعسف والتزييف التي اتّسمت به ترجماتها، فترجمة بيرتون، كما يشير إلى ذلك كثير من النقاد مثل بورخيس، ليست صادقة ودقيقة على المستويين اللغوي والثقافي. فمن المعروف أن الليالي العربية في ترجماتها المختلفة وتاريخها الغامض لا تعكس ثقافة محددة ولا هُويّة واضحة؛ إذ تعرّضت أثناء ترجماتها المتعددة إلى كثير من التعديل والحذف والإضافة وكان لدى مترجميها من المستشرقين دوافع خاصة. لذا كان المترجم لليالي العربية حاضراً وظاهراً وواعياً بقوة، وكان منتهجاً في ذلك «المنهج الحرّ في الترجمة» Free Translation أكثر من تركيزه على «المنهج التغريبي» الذي أشاد به فينوتي.
يبدو أن فينوتي، في إشادته بترجمة بيرتون لليالي العربي، يخلط بين طبيعة المنهج التغريبي الذي يحفظ الحقوق اللغوية والثقافية للنص الأصلي ويبرزها ليكون القارئ على وعيّ بأنه يقرأ نصاً مترجماً، وبين المنهج الحرّ الذي يكون فيه للمترجم دور ظاهر، بحيث يصبح كاتباً ثانياً ومشاركاً في صياغة النص الأصلي، ومساهماً في جعله مختلفاً وخلّاقاً كما فعل بعض مترجمي الليالي العربية. وبالتالي فهو يشجّع على أن تكون الترجمة مختلفة وخلاقة في ثقافة النصّ المضيف، ويشجع، في الوقت ذاته، على أهميّة حضور المترجم من خلال ملاحظة دوره في الممارسة الثقافية المبنيّة على نقل ثقافة الآخر كما هي دون تدجين أو تكييف. وذلك حتى نتمكّن من قراءة النصوص المترجمة بطريقه تجعلنا قادرين على إدراك فرقاً ثقافياً ما في النصوص الأجنبية. وهذا بلا شك يثير تساؤلاً حول قيمة وجمالية المصداقية التامة في النقل، وحدود اختيارات المترجم، وأثر ممارسته في المتلقي!
إنه من الطبيعي أن يظهر ارتباك أي منهجية في الترجمة تعزّز من شأن الممارسة الثقافية المنفتحة على الآخر عند التطبيق أو الاختبار؛ وذلك لأن استجابة النصوص الأدبية، بشكل خاص، لمنهجية ما ليس أمراً سلساً وقائماً في كل الأحوال، مع مراعاة الأبعاد التاريخية للنصوص وواقعها في مجتمعاتها. وهذا يدعو إلى ضرورة إجراء المزيد من البحوث التطبيقية التي تختبر نظريات الترجمة الأدبية وتخلّصها من الخلط بين المفاهيم وتكشف عن مدى فاعلية النظرية ومدى استجابة النصوص لها، ومن ثمّ تحديد طبيعة وجدوى الدور الذي يقوم به المترجم فيما إذا كان دوراً خفيّاً أو ظاهراً.
** **
غزال بنت محمد الحربي - باحثة دكتوراه في الأدب والترجمة - أمريكا