تاريخ كل أمةٍ هو عقلها الباطن وصانع منظومتها الفكرية التي تكوّن وعيها الذاتي بنفسها، وليست أحداث التاريخ من تصنع ذلك وحدها وبذاتها، ولكن يصنعه تحليل التاريخ على يد من يعيد قراءته وتحليله. والوعي بالذات مرتبط بالماضي والحاضر، ولا ينفصل عنهما بحالٍ من الأحوال.
ومع أهمية هذا التاريخ إلا أنه ربما يكون سلاحاً ذا حدّين بل حدودًا عدة؛ فهو قد يُقرأ ليعزّز الوعي الذاتي، ويعيد الروح المعنوية للأفراد والمجتمعات... وهو قد يقرأ ليكون زاداً ومعيناً لا ينضب للتعصّب والتحيّز والشوفينية القبلية أو العرقية أو القوميّة أو المناطقيّة... وليوقظ من هذا التاريخ عداوات نائمة، ووحوشاً راقدةً لتفسد علينا حياتنا اليوم، ولتأمرنا بكراهية أناس أبرياء لم يشهدوها، ولم يشاركوا فيها.. وقد يُقرأ التاريخ ليكون دروساً وعبراً يُستفاد منها اليوم في التماس طريق المستقبل، وعدم تكرار الأخطاء، وتعزيز الوعي والأصالة... وقد يأتي من يهمل التاريخ كليةً، ويضربَ عنه صفحاً؛ ليبقى بلا بوصلةٍ في بحر الحياةِ، وبلا لونٍ من هويةٍ فكرية أو شخصيةٍ ثقافيةٍ ....
ومسألة التاريخ عند كثيرٍ من شعوب العالم ومنهم العربُ مسألة حيةٌ في جانبها السّلبي غالباً، ومن أمثلتها الصراعُ بين الأرمنِ والآذريين اليوم. فالحماسة التي تراها لدى الشّعبين والحرصُ على هزيمة الآخر، ليست مرتبطةً في الحقيقةِ بتاريخٍ مقدسٍ لدى أيٍّ منهما، أو بحقوق الإنسان، أو تقرير المصير، ولا بالدّين من حيث هو دينٌ، ونحن هنا نتحدثُ عن الإسلام والمسيحية، ولكنّها مرتبطةٌ بمآسي التاريخ القديم التي يكرّرها الأحفادُ اليوم انتقاماً لشيءٍ بغيضٍ ما صنعه الأجدادُ قبل عشراتِ أو مئاتِ السنين.... وكل من يعيدُ التاريخ القديم بهذه الصورةِ يقع في الفخّ نفسه.
ولعلّ أبرز الأمثلة التي تستعاد في كثيرٍ من العقول اليوم هي الحروبُ الصليبية التي تصادم فيها العالمُ الإسلاميّ والعالمُ المسيحيّ لمدةٍ تتجاوز قرنين مؤلمين من الزّمان... ففيها من المآسي ما يملأُ مجلداتٍ تبدأُ، ولا تنتهي، خاصة في الشام ومصر لأنها وقعت على أرضهما. ومع أنها في بداياتها قد تأسّست في كثيرٍ منها على شائعاتٍ وأخبار ملفقةٍ لتستدعي الحربَ الدينيةّ والحقد الدينيّ، ومع أن تلك الحروب البغيضة كانت وليدة ظروفها وزمانها إلا أن هناك من يستدعيها اليوم، ويستحضر مشاعرها، وهم بعض المسلمين، ويوجد بعض الغربيين في أوروبا وأمريكا ممّن يعتقد أنها مستمرةٌ، ولكنها تأخذ وجوهاً عديدةً بين عصرٍ وعصرٍ...
كان الراحل محمد أسد- رحمه الله - يقول إن الفكرَ المؤسّس لعداوة الغرب للإسلام بهذه الصورة التي نراها في القرن العشرين عند بعض السياسيين أو المفكّرين في الغرب هو فكرٌ يستدعي كل يوم نموذج قرون الحروب الصليبية في القرنين 4 -5 هـ = 11 – 12 م . وهو يستمد عداوة اليوم من مأساةٍ إنسانيةٍ في الماضي ذات وقودٍ نفسي مستمرٍّ لا ينضَب... وكان هذا التصور بعيداً عن التصديق، ولكن أكّدت ذلك دراساتٌ لاحقةٌ قام بها مفكرون وباحثون غربيّون... ويجب أن أقول هنا إن من الخطأ أن نظنّ هذا الظنّ بالجميع، ففي الغرب رجال عرفوا هذا الفخّ، وفهموا السياق الإنسانيّ للسّجال الفكريّ بين العالمين، وقرؤوه بصورةٍ مفيدةٍ نافعةٍ لا ضارة... بل أسفوا على مآسيه.
وفي مقابل ذلك ينسى الناسُ أن هذه الحروبَ كانت من جهةٍ أخرى سجالاً ثقافياً بين عالمين وكان مفيداً للبشرية كلها، ولأوروبا خاصة؛ فقد كانت هي الطرفَ الأضعفَ حضارياً حينذاك. وخلال هذه الحروب عرفت أوروبا كثيراً من أوجهِ الحضارةِ الإسلامية حينذاك، فعبر هذه الحروب انتقلت صناعةُ النسيج والأطعمةُ الفاخرة إلى أوروبا قبيل عصر النّهضة الأوربية، ومنها مثلاً عرف الأوروبيون صناعة الورق من العرب، ومنها عرفوا كثيراً من المنتجات التي صارت اليوم تُعرف في الغرب أكثر من الشرق كالسكّر الذي عرفوه خلال تلك المدة من الزمن، وكالحمامات والمستشفيات وغيرها من مرافق الحضارة الحديثة التي يعود مقدار غير قليل من تطويرها إلى المسلمين والعرب.... بل إني لأزعم أن الوعي الحضاري الذي أحدثته تلك الحروب كان من أسباب عدةٍ أحدثت مجتمعةً عصر النهضة الأوروبي. وهذه قضية يطول فيها السجال.
ومرة أخرى تستدعى اليوم هذه الفكرة من جديدٍ في عقول كثيرٍ من الأوربيين الذين يرون الإسلام يتقدّم في ديارهم، ويذهبُ بهم الأمر تحت وطأة التاريخ إلى الاعتقاد بأن لدى المسلمين خطةً دقيقةَ التأليف، ومحكمةَ النّسج للهجوم على الغرب، وتحويله إلى عالمٍ إسلامي بعد فشل الحروب الصليبية القديمة...، وذلك عبر تغيير ديموغرافية أوروبا.
والحقيقةُ التي يغفل عنها المراقبُ الأوروبي ممن يؤمن بهذا هي أن المسلمين اليوم أضعفُ كثيراً من أن يكون لديهم خطةٌ بهذا الحجم القاريّ الكبير، كما أن المسلمين اليوم أنفسهم متفرقون أياديَ سبأ، وغير متفقين في كثيرٍ جداً من الأمور... ولكن هذه الصورة تصبح معقولةً في كل عقلٍ يعيش مآزق التاريخ التي ذكرتها. ويسهل استخدامُها لجمع الناخبين ولتكوين رأي عام يدعم الإسلاموفوبيا وهي كراهية المسلمين والإسلام، وقد يصلُ إلى استصدار قراراتٍ مضادةٍ لهم كما حدث في سويسرا عند منع المآذن قبل بضع سنوات...ولا يستطيع هؤلاء وهؤلاء أن يؤمنوا بأن التاريخ قد مضى بخيرِه وشرِّه، وأننا يمكن أن نعيش في عالمٍ جميلٍ يقوم على تقدير الثقافات المختلفة ورعاية الحقوق، واحترام القانون، وتبقى مسألة تقدير الاختلافات واحترام الثقافات من أهم بذور السّلام في العالم، بل إن جمال العالم يكمن في تنوّع ثقافاته ...وهي إحدى الآيات الكونية لله -تعالى- ولكننا يجب أن لا ننسى أن خلف قضبان هذا التاريخِ وحوشًا تنتظر من يفكّ أغلالها، ويفتح لها الأبواب لتلتهم الحاضر ونحن فيه.
** **
- أحمد بن محمد الدبيان
arabic.philo@gmail.com