أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
بشراكم من ربكم الكريم في يوم الجمعة المباركة يامن يبكرون للصلاة، ويكثرون التفقه في السنة النبوية والتلاوة:
قال أبو عبدالرحمن: يوم الجمعة المباركة رحمة وموعظة وثقة بالله رب العالمين سبحانه وتعالى لأن المسلم في كنف ربه وتبشيره إذا رضي بالله رباً وبالإسلام دينا، وإنني لأغبط معالي الدكتور (عبدالعزيز الخويطر) رحمه الله تعالى؛ فقد كان رجلاً رحيمًا بالفقراء، كريمًا في مواساة طلبة العلم بالمال الكثير، ولقد تناول إحدى مقالاتي المؤثرة فباركها، وأستأنف بها مقالي بعنوان: (في كل آن وحين نذير مؤذن أبناء جيلنا بقرب الرحيل):
قال أبو عبدالرحمن: لا نكاد نقضي أويمات من ذكرى ألم الفقد والفراق لأحد أبناء جيلنا الذي ودعناه بالأمس القريب حتى نفدح بفقد عزيز من أبناء جيلنا ينذر بقرب رحيل بقية أبناء الجيل؛ والدكتور (عبدالعزيز الخويطر) قدس الله روحه ونور ضريحه: يكبرني بأربعة عشر عامًا؛ فكلنا أبناء جيل واحد قد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم بأنه قليل من أمته من يبلغها.
قال أبو عبدالرحمن: لي تجربة كريمة مع معاليه سأسبقها بموعظة من تجربتي الخاصة ما دمت أذكر في كل وقت (الإيذان بقرب الرحيل)؛ لأنه حق علينا في هذا العمر أن يكون محيانا ومماتنا لله رب العالمين بالتشمير استعدادا للرحيل لا وشب فيه للصوارف الدنيوية الفضولية التي هي خارج نصيبنا من الحياة الدنيا؛ لتكون عونًا لنا على طاعة ربنا، وصلاحًا لدنيانا التي فيها معاشنا؛ ولقد جاءتنا النذر التي أعذر الله إلينا فيها ابتداء ببلوغ الأشد؛ إذ بيض وجوهنا ثغام الشيب الذي نغمره بالحناء، وهو أحد النذر، والأرجح أنه ليس هو النذير في قول الله سبحانه وتعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} (سورة فاطر/ 37)، بل المراد الرسول الذي أرسله إليهم بشيرًا ونذيرًا؛ فهو الحجة في التعمير عمرًا لم يتذكر فيه من تذكر إعذار الله ببلوغ ذلك العمر، ومن بلغ الأشد فقد عمر، وأعذر الله إليه..
قال أبو عبدالرحمن: فنحن مشغولون بالثقافات نعتنقها، ونحب الجدل والمغالية للأقران، وأكثر عباداتنا خروج عن عهدة الترك للواجب؛ وإن نقص بعض ثواب الفعل، أو كله؛ فكم من مصل ليس له من صلاته ثوابًا إلا جزءٌ يسير؛ وأما المصلي في بيته لغير عذر فقد فاته خمس أو سبع وعشرون درجة بيقين؛ فإن لم يخشع ويحسن الأداء فسيفوته درجات كثيرة، ويخشى أن لا يبقى له سوى الخروج من عهدة الترك، وهو العقوبة؛ ولا ثواب له.. والراجح عندي رجحانًا له حكم اليقين: أن نقصان سبع وعشرين درجة إذا أحسن الأداء إنما هو في حق من ترك الجماعة بغير عذر.. وعليه الإثم والوزر لرغبته عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فذلك هو من سفه نفسه، وهو إثم من لم يجب النداء الواجب بالهيعلة إلى الصلاة واللاح، ولكن اجتناب هذا الإثم ليس شرطا لصحة الصلاة.. إلا أنه إذا هجر المسجد معظم الوقت يخشى عليه الفتنة بسوء الخاتمة، وأما من صلى في بيته لعذر قاهر فلا ينقص من درجات صلاته إذا أحسنها وفق مدى القدرة ولو قاعدًا.. وكيف ينقص من درجات صلاته والله كاتب له بالخبر الصحيح أجر ما كان يعمله سابقًا من غير نقصان إذا عجز عنه؟!.. ثم يدركنا في الأشد فيئة نتقن فيها العمل، ونطيل، ثم يدركنا التكاسل مع أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، والعامة في نجد تقول عن فيئة الكسول: (جادة الطوع طويلة)، ولكن قد يكون ذلك الكسول الذي خرج من عهدة الترك ذا أعمال من شعب الإيمان أخلص فيها النية لربه فرفعه الله بها درجات، وادخر له أن لا يخزيه في الحياة وعند الممات، وأن يثبته في القبر، وأن يخفف عليه الحساب.. ثم بلغنا سن الكهولة ستين عامًا أعذر الله فيها إلى عبده، وهي سن (الأشيمط) اللهم يا غوثاه يا ربنا؛ فخففنا من اعتلاف التبن قليلاً، وأحسنا العمل في أويقات أكثر، وتعهدنا أنفسنا من الموبقات المهلكات، ولكن هذا العمر السخي يجب أن يتعامل معه العبد تعامل من يشعر بدنو الرحيل؛ فيكون من المحسنين يوم التغابن.. على أن ربنا جل جلاله يرفع حزن الغبن من القلوب عند بلوغ المؤمن منزلته من الجنة؛ فلا يشعر أن أحدا أعطي مثل منزلته، وأنتم تعلمون قصة آخر من يخرج من المؤمنين من النار.. ثم طعنت في السبعين، وهي الخطيرة جدًا جدًا جدًا التي انتهى بها الإعذار، وضعفت فيها الحواس والجسم، وحصل العجز والعناء لاغتنام أويقات تفتح الرحمات: كثلث الليل الآخر، والتبكير لصلاة الجمعة، وعمارة عصرها بالدعاء والتضرع، وصاة الضحى إلى أن ترمض الفصال.. وقد يدرك كثيرًا من ذلك من خفف على نفسه في الصلاة بالجلوس في بعضها، وكذلك من أعين على سهولة التلاوة بأناة من غير رفع صوت مرهق، وكان عنده ذخيرة من فهم الآيات الكريمة، فهذا يكون صوته شجيًا خشوعًا مخبتًا يترنم بكلام الله بتجويده جبلة وإن كان ليس من أهل التجويد تعلمًا وتلقينًا، وتنقاد له الآيات طوعًا؛ فلا يخطئ ولا يبطئ، وتحصل له قشعريرة وحضور ملائكة، وتتجاوب معه أصداء المنزل، ويسرقه الوقت فلا يشعر بطوله.. وأما من غفل في هذه السن كغفلته في شبابه فهو على خطر جدًا؛ لأنه في عمر لا إعذار فيه، ولأنه لم يظهر لمولاه الأعلم بما في نفس العبد من علم العبد نفسه بنفسه؛ فيخشى عليه أن يصيبه وعيد ربه بقوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} (سورة الأنفال/ 23)، وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} (سورة النساء/ 63)، وهناك فتنة المحيا وفتنة الممات.. إلخ، والمسلم ولا سيما في حالتي الإعذار لا تؤمن عليه الفتنة إلا بالجد في بذل الأسباب الشرعية بإخلاص ومصابرة، وهي الأسباب التي يأذن الله له بإيمانه وبالنجاة من النار بفعلها.. وبعد هذا كله فليس من يدخل الجنة بدءًا كمن يطهر بالنار وليس من أهلها مدة قد تكون أمدًا بعيدًا؛ فأي ذوو الجلادة والقوة يقوى على عذاب الله طرفة عين؟.. وبعد هذه الإطلالة الوعظية التي أرجو بها من مولاي جل جلاله رحب المنقلب أعود إلى الفقيد الخويطر رحمه الله تعالى؛ فمنذ توالى على أبناء جيلي فقد الأحبة في وقت قصير آنا بعد آن اتخذت منهجا لم أتأثر فيه بزعم قليل من الشباب أن الرثاء في الجرائد نعي تركه أفضل من فعله؛ فليس هذا بصحيح عندي، بل الرثاء ثناء وشهادة من العبد بما يعلمه من حقيقة أخيه؛ فيقول الرب جل جلاله: (وجبت).. أي الجنة، وفي ذلك تطييب خاطر ذوي الفقيد، والوفاء للفقيد نفسه، وهو سنة العلماء الربانيين في رثاء ذوي الفضل، والله جل جلاله لا يجعل علن العلماء ضلالاً على مدى القرون؛ لأن علن المسلمين معصوم.. ولكن المشترط أن يكون الرثاء صدقًا بلا تزييف، وأن يكون صادرًا عن علم بسر الفقيد وعلنه؛ لأن الله جعل للعلم بالسر بينات مما يظهره العلن؛ فالقرآن الكريم يقرن الإيمان باعمل الصالح في أكثر من آية؛ فالعمل الصالح برهان قاطع على معرفة السر؛ ولهذا جعل الله العمل من أركان الإيمان بالحكم الشرعي لا بالمعنى اللغوي، ومن كثرت دخيلته لفقيده فالله يظهر من سره ما يدل عليه عمله، ويكشف له من سره ما يحرص على إخفائه من فعل الخير، وسيما المؤمن ظاهرة في وجهه:
لا تسأل المرء عن خلائقه
في وجهه شاهد من الخير
والله شاهد بأنه لا يحافظ على الصلاة إلا مؤمن.. والمشترط أيضًا أن يكون الدعاء بالفعل الماضي؛ لأن الله قضى في سنته الكونية بغلبته في الاستعمال اللغوي مثل غفر الله له، وعافاه الله، وبيض الله وجهه ..إلخ.. وغلبة الاستعمال أبلغ من حقيقة اللغة، ولقد نشر لي وللفقيد الخويطر في هذه الجريدة منذ أكثر من أربعة عقود البرهان على ذلك، وأيدني الدكتور في مداخلته.. والمحذور الصيغ الخبرية البحتة في الاستعمال العربي مثل (يرحمه الله)، و(المغفور له)، و(المرحوم).. ولا أعلم استعمال (يغفر الله له) إلا في موضعين: أحدهما في الخبر عمن غفر الله له كقول ضعفة المسلمين لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: (لا وغفر الله لك) لما اعتذر إليهم بقوله: (لعلي أحفظتكم)؛ فالصديق رضي الله عنه سيد كهول أهل الجنة، ومنزلته بدءا من أعلى المنازل بعد الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قد رضي عن ربه، ورضي الله عنه بشهادة سورة التوبة؛ وللحديث بقية في يوم الجمعة القادم إن شاء الله تعالى.
استراحة مع بعض الشجن:
قال أبو عبدالرحمن: أعني النغم الخالد
ما تجلت في سواك الأريحية
نغم حلو وآهات شجية
كالمنى حلم شهي
كالشذا عرف ذكي
وطيوف أسنوية
أنت فيض الوحي والروح الطروب
أنت دنيا الأنس والقلب السكوب
ورؤى الفن الطليق
وجلا السجف الصفيق
وشفوف العبقرية
كم رعيت الليل في الصمت الرهيب
وتفيأت ندا الصوت الخصيب
دمعتي الحري غرام
وحريق وضرام
وتباريح خفية
نسمة النيل سرت كالأمنيات
فانتشينا فانتشينا
رنحت أعطافنا بالهينمات
فاكتوينا فاكتوينا
نسكب الفن رحيقا ظاهريا
من ضمير الغيب لحنا أبديا
من رآنا يا هنانا
نجتويها ظاهرية
كالكري الوسنان يغشى المقلتين
كالتناغي هامسا في شفتين:
عانقتني صبواتي وشجوني
واستشاطت برجائي في سكوني
ويحها نفسي الغوية
اصدحي يا أخت إني ها هنا قلب موله
كان لي إلف طروب
حان لي فيه الغروب
لم يهادني الوجيب
ها هنا كنت المدله
في الدجى أنت النجية
احتسيها نغمات نابغية
من فم الكون نغنيها حنانا
ينصت الليل ويقتات الرزية
من رآنا يا هنانا
نجتويها ظاهرية
وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -