عبدالله بن سعد العمري
بالأمس القريب، رحل عنا الأديب والشاعر عبدالله بن عبدالرحمن الزيد - رحمه الله. ذلك الرجل الذي قضى حياته متقلباً بين دفات الكتب والأدب والإذاعة. كان -رحمه الله- نسيماً خفيفاً يهب على قلوبنا فيسعدها بشعره العذب الذي يسكن الفؤاد حساسية وعاطفة. كيف لا وهو الذي اتخذ لقباً عاطفياً جيّاشاً بات مثلاً شرودًا فكان «مورقٌ بالذي لا يكون». وهو الذي ملأ عواطفنا -رحمه الله- حباً للنصر والمقاومة وعدم الانهزام، فهو الذي خاطب نفسه فقال «فلا تصطخب.. ولا تنتحب.. ألا لا تغب! عن الضوء والضدّ والرمح إن حاصرتك النُّصُب».
ولقد جمعني بالراحل -رحمه الله - لقاء عرفت من خلاله من هو عبدالله الزيد في أدبه وتواضعه وحكمته. فحينما كنت في الصف الثالث الثانوي متحمساً للأدب والشعر، ألفّتُ كتابًا أسميته دهاليز الحب، وهو دراسة أدبية لمفهوم العشق والولع، أسطر فيه معاناة المحبين في الشعر العربي القديم والمعاصر. وذهبت بحماس الشباب حينها إلى وزارة الإعلام بالرياض، حيث طلبت مني المطبعة أن يتم فسح الكتاب أولاً قبل طباعته. كنت حينها صغيراً جاهلاً لا أفقه في كثير من الأمور سوى رغبتي العارمة في توثيق مرحلتي تلك بكتاب مطبوع في الأدب. وحينما دخلت دائرة الفسح بالوزارة آنذاك ذهبت إلى مسؤول الفسح فرآني وقد دخلت عليه وأنا شابٌّ صغيرٌ يحمل بين يديه أوراقاً كبيرة مبعثرة، ويرتسم على جبيني ارتباكٌ موغلٌ في الملامح، فسألني ما الذي أريد فقلت هذا كتاب لي وأريد فسحه، فلم يتصفح الكتاب، وإنما اكتفى بقوله ماذا حل بكم أيها الشباب؟ تعلموا واكبروا ثم ألفّوا، واستمر بقوله « أنتم تريدون الوصول بسرعة، وغيركم أكبر سناً وأعظم قدراً ولم يتجرأ على التأليف» وقد صدق. حينها شعرت بانكسار هزّ خاطري، وهزيمة بلغت مني حد الشعور بالأسى. فخرجت من مكتبه فإذا بعبدالله الزيد -رحمه الله- الذي عرفته لاحقاً يسألني: ماذا تريد يا ابني هنا؟ فأخبرته بما حصل وبما أريد فأخذني لمكتبه، حيث كان يعمل متعاوناً كما فهمت حينها في دائرة الفسح للكتب العربية، حيث أدخلني مكتبه -رحمه الله - وطلب لي كأس شاي. وقام بتصفح الكتاب كاملاً، حيث كان 130 ورقة. كان ينظر للكتاب هادئاً ومتمتماً كما لو يهم بكتابة قصيدة. تتردد كلماته لي بين التشجيع والأسئلة المتعلِّقة بتوضيح بعض ما جاء فيه. وحينما فرغ منه قال لي: يا ابني ما كتبته جميل ومناسب وأظن أن بالإمكان فسحه. حينها امتلكني فرحٌ شديد جزاء تشجيعه النبيل وتقبله لي بتواضعه الجم -رحمه الله-. ولأن عبدالله الزيد ابن المرحلة المهمة من تاريخ الحركات الفكرية في المملكة، فقد كان ملماً وواعياً لخطورة مرحلة الشباب وفرص التكوين الفكري الخارج عن مسار ونسق الوسطية الصحيحة، فقد مكث قرابة الساعتين -رحمه الله - يفهم مني ما الذي أهدف إليه من الكتاب وكذلك ما الذي أريد في مستقبلي القريب ومن هم الذين تأثرت بهم في تلك الفترة، ويمضي معي -رحمه الله- متحدثاً ومربياً ومعلماً في سبيل تعديل ما جاء في بعض صفحات الكتاب وأسلوبه الذي تضمن في بعضه حماس الشبب ومراهقة المرحلة، كما وبذل جهده -رحمه الله - في إقناعي بضرورة ألا أكون محسوباً على أحد سوى وسطية النسق العام التي لم أفهمها حينها لصغري ولعمقها، ولكنني فهمتها لاحقاً بأنه كان لا يريد أن أكون أو أي شاب محسوبون على أي أحد سوى تلك الوسطية في النهج والاقتداء.
قال لي الزيد -رحمه الله- إذا قمت بتعديل هذه الأمور فسوف أفسح الكتاب بنفسي. وبالفعل قمت بالتعديلات وعدت للرياض وأنا في السنة الأولى من الجامعة، حيث التقيته -رحمه الله - في مكتبه للمرة الثانية وقد كانت الأخيرة، وأخذ يتصفح النسخة الأخيرة للكتاب حتى تأكد من التعديلات ثم أخذني بيده إلى مسؤول الفسح وطلب منه فسح الكتاب رغم محاولات المسؤول إقناعه -رحمه الله - بأن ذلك «موضة» شباب وطيش، لكنه أبى بلهجته المصحوبة بالعاطفة والقوة كما في شعره، وتم ذلك وطبع الكتاب.
واليوم ها هو أستاذي القدير عبدالله الزيد -رحمه الله- يغادرنا إلى جوار ربه، ويتركنا هنا لنستذكر سيرته العطرة بين الناس ومواقفه النبيلة، وحبه لمن عرف ومن لم يعرف. فرحمك الله يا أبا عبدالرحمن، وجمعنا بك في جنات النعيم.