فهد عبدالله العجلان
في القضايا المتشابكة المعقَّدة التي يختلط فيها الوعي السياسي بين التكتيكي والإستراتيجي، قد يصبح طرح ما تراه صحيحًا أشبه بالمشي في حقول الألغام، لأن حجم التداخل في بعض القضايا يصعب قراءة أبعاده وتأثيراته، تذكَّرت معضلة تحقق التجرّد - النظري على الأقل- في مناقشة القضايا الفكرية فقفز إلى ذهني -وأنا أكتب هذا المقال - ما لامسه ضمناً الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه «نقد العقل العربي» بأن الأحكام المرتبطة بمرجعيات القضايا النقدية والفكرية تتطلَّب تجردًا يشابه اعتلاء مركبة فضائية للحكم على كوكبين يبعدان عنك ذات المسافة لتحديد التأثيرات الفيزيائية التي تقع عليك بدقة وموضوعية مجردة حيالهما، لكني أيضاً لا يمكن أن أتجاوز السؤال المقلق للعقل التحليلي والذي يطرحه عددٌ من الباحثين: حين نباشر تحليل المواقف المرتبطة بالمرجعات المتجذِّرة في ضمير الشعوب، هل يمكن أن نتجاهل الأثر العميق في الوجدان في تقييم هذه المواقف والخسائر التاريخية التي تنتجها، وقد يصعب إصلاحها في سنوات، بل عقود؟!
قبل سنوات من ظهور الوجه السياسي الأقبح لرجب طيب أردوغان، وفي لقاء جمع عدداً من الكتَّاب السياسيين، وكان ذلك قبل دخول الحوثيين إلى صنعاء، وحين كان التركيز منصباً على العدو الإيراني الذي يسعى لتشكيل الهلال الشيعي، قلت حينها إنني لا أخشى من الإيرانيين في المنطقة بقدر خشيتي من المشروع التركي وتوجهه نحو إعادة النفوذ باتجاه الشرق، خصوصاً بعد أن أحبط الغرب طموحه باتجاهه، كان مبعث قلقي أن تركيا تملك إرثًا تاريخيًا في المنطقة ونموذجًا تنمويًا رغم (كرتونيته) استطاع اختراق قنواتنا التلفزيونية بنموذجه المجتمعي ومن خلال أهم القنوات العربية في غيبوبة عميقة من قبلنا، مدعومة بتلبيس كبير ساهمت فيه أطراف في الداخل والخارج لخلق مجال حيوي شعبي داعم للطموحات التركية بقصد أو بدون قصد، في تلك المرحلة لم يكن ذلك واضحًا لكثير من المجتمعات العربية المغيَّبة، أما الآن فلا أظن أحدًا بحاجة للاستدلال عليه!
المقاطعة الشعبية العفوية في المملكة اليوم للمنتجات التركية والتي تشهد إجماعًا شعبيًا غير مسبوق تنافس عليه المواطنون والمقيمون ورجال الأعمال، تعكس حجم الاصطفاف الشعبي في مواجهة التحديات التي تمس الوطن والمنطقة العربية بعد أن أصبح الرئيس التركي يجاهر بالتهديدات تصريحًا وتلميحًا غير مدرك أنه يحفر قبر بلاده!
في ذات سياق الأزمات وتصديرها التي تفرضها التحديات الداخلية للدول المأزومة، جاءت تصريحات الرئيس ماكرون خلال الأسابيع الماضية والأحداث التي عقبتها بلغة تترجم حقيقة أن بعض القادة السياسيين والأحزاب الغربية لا يتورَّعون عن تفجير الصراعات الثقافية داخل بلدانهم والعالم لتصدير أزمتهم الداخلية، ولأن الأحداث في الملعب السياسي تشابه كرة تتقاذفها القوى الدولية والإقليمية لاستثمار تداعياتها، يتناوب المكافيليون الجدد الأدوار لتعزيز مواقفهم الداخلية والخارجية للخروج من أزماتهم، ولذا كانت حماقة تصريحات ماكرون كرة مصنوعة للرئيس أردوغان لتسديدها في الهدف باستثمار الغضب الشعبي تجاهها لتغطية تخبطاته السياسية وأزماته الداخلية والإقليمية هو الآخر، والمؤلم أن العقلاء في عاصمة التنوير الغربي المؤسساتية لم يعد لهم أي دور مؤثِّر للحد من هذه التخبطات التي قد تكون تكتيكية، لكنها تدمِّر الأهداف الإستراتيجية لأي دولة تحترم تاريخيها وتقرأ فرص المستقبل، أما الجانب التركي، فلا لوم عليه وللأسف لأنه لا وجود لمؤسسات ولا مفكرين قادرين على مواجهة آلة الحديد والنار الأردوغانية!
المثير للعجب في منطقتنا هو الانسياق العاطفي من بعض الكتَّاب والمغرِّدين السعوديين والخليجيين وكذلك العرب للتقليل من تجاوزات ماكرون وفريقه السياسي، بل والاعتذار بالنيابة عنه في مقاربة المواقف الأردوغانية الانتهازية، والراصد لتطورات هذا الحدث يلحظ أن الآلة الإعلامية الإخوانية الطيِّعة في يد أردوغان سعت للخروج من أزمتها في الربط بين الموقفين لاستثارة حراك إعلامي مضاد من بعض - المغيَّبين عن الوعي - صوَّر أن هذه القضية لا يمكن أن تفصل بين موقفين في نظري أنهما مكملان بعضهما لبعض وليسا متناقضين في الانتهازية السياسية!
المقاطعة الشعبية العفوية للمنتجات التركية والتي أوجعت الاقتصاد التركي، كانت سابقة لما حدث في فرنسا وتتوسع وتزداد حتى خارج الحدود السعودية، ولذا وجدت الآلة الإعلامية الإخوانية في أحداث فرنسا فرصة لحرف بوصلة الاتجاه نحو الدعوة لمقاطعة المنتجات الفرنسية، فكان الطعم جاهزًا لالتقاطه, لينبري بعض الكتَّاب والمغرِّدين للربط بين المقاطعتين والتبرير وكأن إحداهما بالضرورة تعني الدعوة لإهمال الثانية، وللأسف أن بعض هؤلاء من المندفعين يجهلون حقيقة أن المجتمعات الإسلامية في دول مثل باكستان وماليزيا وإندونيسيا وبنغلاديش والهند، بل وتركيا نفسها التي ضاقت ذرعاً بأردوغان وفريقه السياسي العدمي، ناهيك عن الجاليات الإسلامية المنتشرة في أوروبا وأمريكا تشهد حاليًا استقطابًا سياسيًا عالي الحدة، تبرز توجهاته في تقييم مثل هذه المواقف، فهل من العقل والحكمة أن نصطف في جانب بعيدًا عن الموقف الإسلامي الشعبي، ونحن القبلة التي تحترمنا وتهابنا الدول العظمى بتعلّق قلوب الملايين بأرضنا؟ أجزم أن ذلك يمنح أردوغان وحلفاءه من الإخوان وغيرهم مكاسب لا يكادون يحلمون بها!
رغم يقيني أن ماكرون في تصريحاته للخروج من الأزمة الضاربة في عمق الجمهورية الخامسة قد ارتكب أخف الضررين سياسيًا باعتبار أن الأزمة الفرنسية الحالية والتي أقل آثارها اليوم اقتصادية ; تتطلب لتسكينها صراعًا اجتماعيًا داخليًا، إلا أنه وقع في فخ إشكالية يترجمها الوعي الاتصالي السياسي الثقافي من خلال ماطرحه دارن بارني في كتابه «المجتمع الشبكي» من خلال إلماحه العميق (السؤال ليس مَن أنا؟ السؤال ما هي ذواتي؟)، حيث تأتي هذه العبارة في سياق توصيف الذوات الاتصالية الرقمية لدى الأجيال الشبكية الحديثة، فقد اعتقد ماكرون -واهمًا - أن رهانه سيمر عفويًا في لغة اتصالية لن تثير الهويات التاريخية العميقة الأكثر تجذرًا من حادثة وقعت هنا أو هناك، وقد تحدث شرخًا في بنية الأقليات داخل بلاده التي سعى لتصدير أزمة هويتها الثقافية إلى العالم، دون إدراك أنها سترتد عليه وتحقق أهدافًا عكسية قد لا يرى آثارها إلا بعد سنوات أو عقود، فتحدي الضمير الثقافي لنسيج اجتماعي داخل بلاده له امتدادات واسعة في القارة التي يتشارك الأرض فيها مع دول كثيرة، فضلاً عن امتداد عالمي أوسع هو إنهاض لأكثر جوانب هذا الضمير خطورة وهو الشعور بالإقصاء!
جونثان براون -وهو البرفيسور المتخصص في حضارة الأديان في جامعة جورج تاون - علّق في حسابه في «تويتر» قائلاً إن فرنسا هي الخط الأمامي للإسلام فوبيا وبحجة جريمة شخص واحد نرى جهود ماكرون لإدماج كافة المجتمع المدني والاختلافات الدينية والثقافية في آلة السيطرة العنيفة للدولة!
مايكل وايس -المؤلف والمحرِّر لعدد من الكتب المعروفة - قال في مقال نشره بإحدى الصحف ملمحاً إلى الرئيس ماكرون ووزير داخليته إن من يفرِّق الناس لا يمكن أن يجمعهم. أما الصحفي جيمس مكولي فغرَّد -مخاطبًا إحدى صحف اليمين المتطرف - محذِّر من تبعات الخوض في الأديان وتساءل: هل رد الحكومة هو الأكثر إيجابية بعد أسبوع من الهجوم المروِّع؟!
في بريطانيا -التي تستشعر الأزمة عن بعد - غرَّد براندن هامبر أستاذ دراسات السلام في جامعة لستر في هاشتاق #FrenchElection قائلاً إن العنصرية وكراهية الإسلام تنتشر في فرنسا، واصفًا ما يحدث بالأوقات المقلقة!
أخيرًا لا بد أن نستحضر واقعًا يتشكَّل اليوم يسعى فيه الإستراتيجيون إلى نزع أوراق القوة والتأثير من المستهدفين بمساعدة المستغلين، وحين نسلِّم بأيدينا تلك الأوراق فقد لا نستطيع استرجاعها لاحقًا، فهناك من يتطلَّع إلى فتات تلك الأوراق، فهل يدرك كتَّابنا ومغرِّدونا الفرق بين التكتيكي والإستراتيجي، فالمملكة أدانت الرسوم المسيئة للرسول، وكذلك هيئة كبار العلماء، فلنتنبه للخسائر الإستراتيجية في هكذا قضايا حتى لا نندم ولات حين مندم!