لكل من تُعاشر يأخذ «خلاقا» من حياتك..
يختلف دويّ مداه، وأبعاد صداه.. من حيث القرب أو البُعد..
فأنت تمضي (أيام عمرك) مع أقوام يتحدد تأثيرهم بمقدار ما أمضيت من مشيج تلك الأيام وعمرك المنصرم معهم..
دلل على مرامي «الحسن البصري»:
(يا ابن آدم إنما أنت أيام فإذا ذهب يومك ذهب بعضك) أي أن كل يوم يمضي يُنقص منك..!
وبخاصة مما -بسببها- تتقاسم مع المحب غزيرها، فلا تجدك بعد انصرامها إلا متأوّهاً: (كم شكوت قصر الوقت) معه! فكيف به إذا (رحل) وتركك في دنيا خاويةً، وقدر ما تتأثر لفقده، وعلى نسج هذا نتعزّى بروافدٍ من مثل ما قاله إبراهيم المغربي رحمه الله: (لولا مصائب الدنيا، لوردنا الآخرة مفاليس) -حلية الأولياء-
لـ(فراااغ).. ثقيل خطا حركته دواخلك، مهما تماسكت أو أبديت تجلدا..
مع غروب شمس الأمس -الاثنين- من نصف شهر الله المحرّم.. رهفت لصوت بالكاد يُسمع، ليبلغني (في ختامها)
عن رحيل عمّه، تلكم فحوى رسالة صوتية من حماد (ابن خالتي) رحمها الله..
أجل فالإخبار بالموت ذو وجل، ما يحتم ليبلّغ عبر جُرعات، فالقلوب رهيفة لدرجة..!
فكيف بها وهي تتلقى هول نبأ (الوفاة)؟!
وبالذات إن كان في عزيز أو خليط حضوره كما تقدم ليس بعيداً، بل من نافلة مجتمعك..
سبحانك ربي.. ما كدنا نفيق بعدُ من آثار فراق غالٍ؛ (خالي) فهد بن عبدالعزيز المطلق، حتى تبعه القريب الحبيب..
«عبدالكريم بن عبدالله بن محمد الحماد».. رحمهما الله، وجمعنا بهما في عليين، ألا.. فالتؤدة يا قوم، فما في المهج قدرة أو احتمال لتلقي حِمم الفراق..
(الناس) لا تُقاس هالة غيابهم من حيث ثقلهم بالمجتمع، بل الغالب بمن حولهم، لأن التأثير قد لا يبلغ الوجه المرجو كما ترنو بالمقارب دماً ممن يبقى له وزنه، والحال تماثل -كذلك- إن كان بالصاحب ذي الجنب (الجار)، والذي لغيابه تأثير، رغم أنه قد لا يكون من ثلّة أو خاصّة الأقارب.
وعلى هذه المسلّمة أبثّ ناشراً عن خبايا ما للفقيد يرحمه الله، والذي أعرفه منذ وعيت دنياي يومئذ.. وكانت أمي تصحبنا لأختها (وهي زوجة أخيه) إلى بيتهم الكبير، في الديرة باطن الرياض، وقد كان يضمّ جمع العائلة، يوم كانت الدنيا بسيطة.. فتلم تلكم الدور لفيف جماع الأسر الصغيرة، أجل أذكر (أبا عبدالله) من ذاك العهد/ يفاعتي.. وأحسب أنه بقي على سحنة لم يتسنّه.. أو تغيره قلّب الدنيا
كما وحبابة لم تتبدل، فابتسامته العالقة بي عن محياه لم تغب.. أن كانت له عنواناً (كلما التقيته)، ثم ثبتت له تلك الخلّة من بعد أمّة مضت بنا الدنيا حتى التقينا بمشروع عقاري، ما تجلى أنه مسبطر بذاك الذي عهدتُ عنه، أن كان رحمه ربّه آخذاً الدنيا ببساطة، لم يضق (مما ناب المشروع تؤودة) ذرعا، وبعيدها انفرط عقد تلك العلاقة على غير ما سبب، أعني بلا قصد.. حتى/
لأفيق على خبر فزعت بآمالي إلى.. لكنه واقع، فقدر الله ما له من دافع.
لا.. لم أكن أتوقع أن الدنيا سريعة هكذا!
فتأخذ بدولابها من الغالين ما تتقطّع المهج على بينه، من مثل صدر الأحباب، أو الشمل من الأصحاب.. بالذات عند رهفك للخبر الثقيل لما في طيّه (الرحيل)..
وللأسف إنه -دولاب- لا يتوقف!
كم أعجب أننا نجري في خطى متسارعة، لا تخافت فيها، فكأنما نخفّ بحالنا ولا نروف.. فما الذي يدفعنا؟
حقيقة لا أدري تحديداً..؟!، وإن ظهر سؤال يلحّ: هل لزاماً علينا البحث.. وبهذه الطريقة التي يأطّ عليها (..اللهاث)، فيما من نحبّ ينادون (.. من وراء كدّنا) بلغة الخجل: ألا تدعوا أُنسنا يتسرب من بين أصابع زمننا، ولسان الوجل يتوارى أن يبدي ملامةً، وإن كان يشير- لو (وعينا) ذاك كتكرمة لندائهم.. الذي يشير ولا يخبر أننا عن قريب راحلون.
لن أُزايد، وإلا فإن الأكبر جُرحاً يوم كنت ترجو (جمع) دنيا لتُؤنِسهم.. فإذا الأيام تكرّ بلا معقّب لها، وأنت لم تستطع أن تبلغ شيئاً.. إلا نزرا مما رجوت.
وهاكم لقطةً مُقاربة عن الشرح/
كم من مغترب عاد إلى وطنه -الهوينا- فلم يجد صفوة ممن ودّعوه يومها، فمضى يقلّب كفيه على ما تماهى جراءها حتى فقدهم، فلا تعدم أن تجده يتقطّع بحسراتٍ يكاتمها سموّاً على جراحه، فيما أجزم -لو تطقّست- لـ..لواعجه، إلا وجدتها تعضّ أنامل التوجّع على ما فرّط في جنب وصالهم، لكن.. هكذا هي الدنيا، والزلل نحن مصدره، لأننا نقرأها بطريقة لا تتفق وسِلمها، فلا تأثيم إن قيل لأحد أولئك: أقصر.. واستمتع ولا تخلط حابل الكدّ لضروريات معاشك بنابل الجري وراءها..
فحسبنا موعظة حبيبنا -صلى الله عليه وسلم-، وهو يقرّب لنا قيمة هذه التي نكرّ فوقها بلا هوادة -الدنيا-:
(كرجل قال عند الشجرة)..
فكم -بربكم- يقضي المرء من ساعات يومه في «قيلولة» الظّهيرة؟!
وعسى نعي.. فنعيد الأمور لنصابها..
ثم أزيدك معنى آخر من كتاب ربك.. والذي قلما يأتي على ذكر الحياة -هذه- إلا وأتبعها بنعت الـ(.. دنيا) أي السُّفلى، مثل:
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}.. ويكفيك ختام ذات الآية، وكأن وجه اللفظة مُوجِز.. عنها -إخباراً- أنها دنيئةً المنزلة، وبالتالي لا تستحق بعض (لا كل) الجُهد، لأن.. { مَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} أبداً..
ودليل آخر.. فقد ساقت الآيات للآخرة حثاً..
{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}، وندبت بـ{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ}..
لكن حين أتت على حصاد هذه الدنيا، وتحصيل أقواتنا بها.. أي الآنيّة، والتي قل ما ينفع أو يُدفع لأواء معاشها عدا سلك جسر من التعب- الصبر- ما طُلب منّا التريث، فقالت {امْشُوا.. في مناكبها} فحسب،
لأكتفي بإشارة ما تقدم، لأن الاسترسال خلف هذه (الجزئية) وحدها يفتح أبواباً قد يطول تقصيها، فكيف ببقية ما طرقت..
لأملي/ لكأن المراد حسبكم من ذلك ما يُقيم أجسادكم، فما حصّلتم منها بغير إهمال ففيه الخير، وما لم تبلغوا فكفاكم (أي إن استعصت) عن ذلك قواما ما بلغتم، فالتفتوا إلى من (قربهم) هو الانشراح الحقيقي المتحصّل نماؤه بالقلوب، وهنا نعي (مرام) الشاعر:
ما البكاء على الأشباح والصور..!
لأن عند أولئك طُرا الحب الذي لا مراء فيه..
وهذه لعلها خير من الذي ترجوه.. ولا
تطاله بجهد معتاد، مما لا يحتاج تقريبه لاجتهاد.